حامل الضياء א

كتب: منة الله عامر


    لدي دائمًا تَخيل أخر لشكل أبليس أو الشيطان، فلربما كان جميل الصورة، ألم يكن ملاكًا في البدء! ربما يرتدي بذة ما أو جلباب أبيض، وطالما تسألت لماذا القرون!، ولماذا اللون الأحمر مرتبط به، فلربما كان الأسود أو الأزرق أو البنفسجي، وطالما صَورتهُ الأفلام والقصص وخيالات الأشخاص أنه قبيح الصورة، ولهذا دائمًا نخشاه، كلما وضعنا له صورة قبيحة كلما خشيناه أكثر وأكثر، لذلك عند ذكر اسمه نبدأ في الارتجاف، ولكن لماذا نخشاه وهو مَنْ يجب أن يخشَنا.



-وجاء مسلسل Lucifer ليثبت أن الشيطان من الممكن أن يكون وسيمًا!! ولكن لن يستطيع أن يحتفظ بوسامته فترة طويلة؛ لأن مازال التصور الأزلي له على أنه كائن قبيح! ولكن دعنا من المسلسل فهو مسلسل جاء ليبث فكرة أخرى خيالية ربما وإلحادية بشكل كبير ولكن ليس هذا موضوع نقاشنا اليوم-. 


 
  هذا عن هيئته التي لا يمكن لأحد أن يجزم صحتها أو ينفيها، ولكن ماذا عن فعله، هل هو حقًا مصدر الشرور كلها؟ هل هو المسئول عن القتل والسرقة والنهب والاغتصاب، اذا كانت الاجابة "نعم"، فلماذا؟!
واذا كانت "لا" فمن المسئول؟!
     الشيطان لم يذكر فقط في القرآن الكريم، بل ذُكر مرارًا في الحضارات القديمة، مثل: آشور وبابل وفارس والهند ومصر القديمة، وأيضًا في بقية الديانات السماوية مثل: اليهودية والمسيحية، والوضعية أيضًا ومنها: المانوية وغيرها.
 
دعونا أولًا نفند معًا أصل كلمة أبليس أو شيطان في المعاجم المختلفة،
    فنجد في اللغة العربية مادة "شط وشاط وشوط وشطن"، وفى هذه المواد معاني البعد والضلال والتلهب والاحتراق، وهى تستوعب أصول المعاني التي تُفهم من كلمة الشيطان جميعها، فالشطط من الغلو الذى يدخل فى أخص عناصر الشيطنة وشاط بمعنى احترق وتلف، وأشاطه بمعنى أهلكه وأتلفه، انطلق شوطًا أى ابتعد واندفع فى مجراه، وشطن أي ابتعد فهو شيطان على صيغة فيعال، وقيل: الشيطان فعلان من شاط يشيط، وأن العرب تسمى بعض الحيات شيطانًا، وفى القرآن الكريم نقرأ:" طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ" سورة الصافات "65"، استعمل لفظ شيطان أيضًا ليدل على القبح.

      أما أصل الكلمة فى اللُغة العبرية؛ فنجد فى قاموس دافيد سجيف معنى "שטן" (سَطان) أنه الشيطان أو المارق أو الشرير ومعناه فى التلمود إبليس أو ملاك الموت، ويأتى مجازًا بمعنى العدو أو الخصم ، أما معجم "إيفين شوشان" فقد اسند الاسم للفعل العبري "שט" والذى أتى من الآرامية "שוט"  والذى يعنى فى العبرية المقرائية الملاك المُحرض أو المُوسوس والذى يدفع الناس لفعل الآثام ليُحرض الرب ضدهم، كما ورد فى أيوب (1/ 6 -7)، فورد الفعل "שטן" ست مرات فى نصوص المقرا أو العهد القديم، والذى أتى بمعنى يكره أو يمقت مثل: ما ورد المزامير (109/ 20)، المزامير (109/ 24)، المزامير (71/ 13)، المزامير (38/ 21) وجاء أيضًا بمعنى حرض؛ حيث ورد فى سفر زكريا (3/ 1) والمزامير (109/ 4). وورد سبع وعشرون مرة بمعنى الملاك المُحرض كما ورد فى أخبار الأيام الأول (21/ 1) وأيوب (1/ 6)، (1/ 7 -8- 12، 2/ 2-3-6) وزكريا (3/ 2)، أما فى بابابترا (טז) فيرمز إلى ملاك الموت، وإلى الشيطان الذى يصنع  الشر وفى المشنا قسم البركات جاء بمعنى ملاك الموت أيضًا، وورد فى سفر الملوك الأول (5/ 18)" וְעַתָּ֕ה הֵנִ֨יחַ יְהֹוָ֧ה אֱלֹהַ֛י לִ֖י מִסָּבִ֑יב אֵ֣ין שָׂטָ֔ן וְאֵ֖ין פֶּ֥גַע רָֽע". أما أعمال التى تنسب للشيطان: فهى تتمثل فى التدخل بين الأمور، وعمل الشر، والفعل "טן" بمعنى أزعج أو أربك أو تسبب فى التشويش نجده فى صموئيل الأول (29/ 4) " וְלֹא־יִֽהְיֶה־לָּ֥נוּ לְשָׂטָ֖ן בַּמִּלְחָמָ֑ה וּבַמֶּ֗ה יִתְרַצֶּ֥ה זֶה֙ אֶל־אֲדֹנָ֔יו הֲל֕וֹא בְּרָאשֵׁ֖י הָאֲנָשִׁ֥ים הָהֵֽם"، وسفر العدد (22/ 22) " וַיִּֽחַר־אַ֣ף אֱלֹהִים֮ כִּֽי־הוֹלֵ֣ךְ הוּא֒ וַיִּתְיַצֵּ֞ב מַלְאַ֧ךְ יְהֹוָ֛ה בַּדֶּ֖רֶךְ לְשָׂטָ֣ן ל֑וֹ וְהוּא֙ רֹכֵ֣ב עַל־אֲתֹנ֔וֹ וּשְׁנֵ֥י נְעָרָ֖יו עִמּֽו".

    أما اللغات الأوروبية الأخرى فأصل إبليس فى اليونانية من كلمة "ديابلوس - Ο διάβολος" والتى تفيد أيضًا معنى الاعتراض والدخول بين شيئين، وتفيد معنى الوقيعة وأصلها فى اليونانية من "ديا" بمعنى أثناء، أما اللغات السكسونية فإن كلمة ديفل devil ، مأخوذة من الشر أى من كلمة do  بمعنى يفعل، وكلمة evil  بمعنى الشر، ولكن لم يتفق اللُغويون على صحة هذا الاقتراح، أما عن كلمة "حامل النور – Lucifer" فهى أصلها لاتيني على اسم كوكب الزُهَرة لم تكن فى البداية للكلمة دلالة سيئة، ولكن أخذت المعنى المُعاكس مما ورد عند النبي إشعياء حين كان يوبخ ملك بابل الذى سمى نفسه بكوكب الصباح، فنقرأ:" كَيْفَ سَقَطْتِ مِنَ السَّمَاءِ يَا زُهَرَةُ، بِنْتَ الصُّبْحِ؟ كَيْفَ قُطِعْتَ إِلَى الأَرْضِ يَا قَاهِرَ الأُمَمِ؟" (14/ 12) إشعيا الأول. وفهم الحواريون من كلام السيد المسيح أنه رأى الشيطان كنجم وهذا النجم هو كوكب الزُهرة، وإنه كناية عن الخيلاء التى تقود صاحبها إلى سقوط من السماء، على أن سفر الرؤيا يذكر على لسان المسيح أنه تحدث عن نفسه فقال:"أَنَا أَصْلُ وَذُرِّيَّةُ دَاوُدَ. كَوْكَبُ الصُّبْحِ الْمُنِيرُ" سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي (22/ 16)، إذا فإذا وصف إنسان اليوم شخصًا آخر بأنه "لوسيفر" فالمفهوم من هذا الوصف أنه يلمع ويتخايل باللمعان فهى الخطيئة الساطعة، وهناك أسماء كثيرة أيضًا تُطلق على الشيطان مثل: بعل زبول وأتت من عبادة البعل كسخرية منها  فهى تعنى رب الذباب، وأيضًا عزازيل أى إله الخراب والقفار وهو اسم مذكور فى المقرا أو العهد القديم.

      وذكر الأمورائيم اليهود المتأخرون أن الشيطان تمثل لآدم فى صورة الحية حين أغراه بأكل الثمرة المحرمة، ولم تنقطع العلاقة بين الحية والشيطان، ويُأخذ من سفر أيوب –عليه السلام- وهو عربي باتفاق المؤرخين، أن الشيطان كان معروفًا بين العرب من ذلك العهد الذى كان سابقًا لعهد خروج بني اسرائيل من مصر، ويؤرخ من تاريخ الأدب العربي فى الجاهلية أن العرب قد عرفوا الشيطان فى أدواره الفنية والأدبية مع السحرة والشعراء، فالمتكلم العربي يفهم من وصف إنسان من الناس بأنه إبليس فإنه يريد ايصال دلالة على الفتنة والدهاء والسعي بالفساد، ولم تحمل أى كلمة دلالة لُغوية أكثر مما حملته هذه الكلمة المستعارة من إبليس فى العقيدة الإسلامية، أما عن مادة الإبلاس الذى أتى منها إبليس فهى تدل على فقد الرجاء، فالفرق بين إبليس والشيطان بأنه واحد ضيع الحق والآخر ضيع الرجاء .

   وأخذ الشيطان أيضًا معنىً باطنيًا فى المقرا وفى تفسيرات الحاخامات المتأخرين فهناك غريزتان فى الإنسان واحدة للخير وأخرى للشر تدفع الإنسان إلى فعل الإثم وعصيان الرب. وقد سميت فى بعض المصادر اليهودية بالشيطان، وطبقًا لأقوال الحاخامات فإن غريرة الشر تدخل الإنسان عند مولده (وهذا بالتأكيد يُنافى فطرة الله التى خلق عليها البشر، وهى فطرة سليمة خالية من أى شر حسب المعتقد الإسلامي)، أما غريزة الخير فتدخل الإنسان بعد الميلاد بثلاث عشر سنة، وقد سمى الرب الشيطان "سوء" وسماه موسى ب "سُم" وسماه داود ب "نَجَس"، وسماه إشعيا ب "عَثرة"، وحزقيال سماه ب "حَجَرْ"، وسماه يوئيل ب "متربص"، فغريزة الشر هى التى تضلل الإنسان وتُغويه، والشيطان هو الذى يُحدَّث النفس (أى يوسوس لها)، وفى النهاية لدى الإنسان الاختيار الحُر للطريق الذى يريد أن يسلكه وعليه الجزاء فى النهاية. 

     إذا فبدأ الشيطان يأخذ حيزًا في الكتابات القديمة وحتى الحديثة منها؛ على إنه هو المُحرض لارتكاب الشرور والآثام، فهو عدو للإنسان منذ آدم كما فسر الكثيرون وحتى نهاية العالم.
اذا هل الشيطان المحرض لارتكاب كل الشرور أم أن للإنسان دور في ذلك، ولماذا هذا الصراع  الأزلي؟ سنعرف كل هذا في التقرير القادم.

تعليقات

المشاركات الشائعة