دين الإنسان ג

 

كتب: منة الله عامر

    ربما تأخُري هذه المرة له سبب مقنع؛ حيث إنني وجدتُ نفسي في ورطة، كيف لي -أنا- أن أشرح لكم وأنتم الأكثر تعقلًا مني، لماذا يؤمن البعض ويُلحد البعض الآخر! لقد توقفت في محطات كثيرة حتى أكتب ما ستقرئه صديقى القارئ (أنتم تعرفون أن كل القارئين أصدقائي) ولعلي أخطأ به أيضًا، ولكني تحريت الدقة في كل معلومة وكل قُول ذُكر في المقالة؛ لذلك سأدع لكَ القرار... وهيا بنا نكمل ما توقفنا عنده ولتكن هذه المقالة الطويلة محطاتنا الأخيرة في هذه الرحلة المثيرة للجدل والمشوقة لي في الواقع والثقيلة في الكتابة أيضًا، لذلك هيا بنا...



        في البدء تفكر الإنسان في الخالق، على إنه سبب وجود كل الآشياء من حوله وهو مالك السموات والأرض، والإنسان أول ما انفرد عن غيره من مجموعة الرئيسيات العليا بتشكيل الأدوات الحجرية بواسطة تقنيات الشطف، وبعد ظهور الأدوات الحجرية، ترك لنا الإنسان الأول إلى جانب أدواته شواهد على وسطه الفكري، تشير إلى بوادر دينية لا لبس فيها، وتبين ظهور الدين إلى جانب التكنولوجيا كمؤشرين أساسيين على ابتداء الحضارة الإنسانية.

يمكننا أن نقسم التاريخ الفكري الإنساني إلى أربع مراحل هى: السحر، فالدين، فالفلسفة، فالعلم التجريبي.    

ومن هنا، جاء قول البعض بإن فكرة الدين ما هى إلا تطور للسحر، وبهذا الصدد سنشرح المقولة بإستفاضة أكثر؛ قديمًا كان الإنسان يؤمن بوجود مخلوقات تتحكم في الطبيعة، وعليه أن يسترضاها لذلك كان يقوم ببعض الحركات وربما يلقي بعض العبارات الغامضة التي يؤمن بفاعلتيها، لدرء الشر الذي تجلبه تلك الكائنات الغامضة، بالطبع سيأتي على ذهنك سؤال، آدم أول المخلوقات البشرية، وكان بلا شك يؤمن بالله الواحد، ويعبده، ولكن مَنْ آتى بعد آدم! كان من الطبيعي والمرجح أنه سيحيد عن أوامر الرب، ويبدأ الشيطان -أو نفسه- في جعله يُخطأ ويعبد أي شئ أخر غير الرب، وبهذا نتج عبادات وثنية مع مرور الزمن، والإيمان بقوة الساحر والسحر، والمخلوقات الأخرى الغير بشرية، وحتى عبادة أرواح الأسلاف التي كانت منتشرة في أستراليا وبعض دول قارة آسيا، وهناك مقولة رائعة "حين طُرد آدم من الجنة أُبتلى عقله بالجهل، وجسده بالشهوة وبات عليه أن يُكافح الجهل بالمعرفة والشهوة بالاعتدال"؛ من كتاب رحلة العقل للرب، للكاتب بونافنتورا.

  حاول الإنسان البدائي تفسير بعض ما يخفي عليه من الظواهر الطبيعية مثل: الغروب والشروق والمطر والرياح الشديدة، بأن له روحًا حالة بجسده ولكنها مستقلة عنه قابلة بإن يزايلها في أي لحظة ويمارس نشاطه في أماكن أخرى، وهذه النظرية تسمى "أروحانية" وهى أساس الدين، لقد كان لا يفرق بين النِسمة والنسمة ويرى أن "الريح" ما هى إلا "روح"، كبيرة ترضى فتكون نسيمًا ليلًا، أو تسخط فتكون ريحًا قوية تعصف به، وفسر بذلك أن المرء إذا تراءى له صديقه ليلًا، فإنما هو رآى روح صديقه لا شخصه، كل هذا يوضح كيف تتطور رؤية الإنسان البدائي للظواهر الغير مبررة له في ذاك الوقت، فمن الطبيعي له آنذاك أن يؤمن بقوة التعاويذ الشافية وقوة السحر والساحر، ومن هنا بدأ أو شعور خفي يتعلق به الإنسان، وهو حاجته إلى الإيمان بشئٍ ما، حتى لو كان فقط مجرد قطعة حجر.

على إن الإنسان بعد تاريخ ملئ بالمرارة والألم والإخفاق في السيطرة عل محيطه بعلمه الزائف ذاك (السحر) اتجه إلى الدين، فإذا كان العالم قد تمرد حتى الآن على الإنسان، مثبتًا عدم خضوعه لتلك الترابطات المفترضة، فلابد إذًأ من وجود قوى خارقة تقف وراء المظاهر المتبدية لهذا العالم، قوى إلهية مفارقه له وفعالة فيه. وبذلك ابتدأت مرحلة جديدة تتميز بالتقرب لتلك القوى واجتذاب عطفها ومحاولة تفهم رغائبها وآلية فعلها وشروطه. فظهر الدين وتطور بشقيه: الشق الأول إعتقادي يستخدم الأسطورة أداة للمعرفة والكشف والفهم. والثاني: طقسي يستهدف استرضاء الآلهة والتعبد لها.



فالأسطورة والحالة هذه هى التفكير في القوى البدئية الفاعلة والغائبة وراء هذا المظهر المبتدي للعالم وكيفية عملها وتأثيرها، وترابطها مع عالمنا وحياتنا. إنها أسلوب في المعرفة والكشف، والتوصل للحقائق  ووضع نظام مفهوم ومعقول للوجود، يقنع به الإنسان ويجد مكانه الحقيقي ضمنه، ودوره الفعال فيه. الإطار الأسبق والأداة الأقدم للتفكير الإنساني المبدع والخلاق الذي قادنا على طول الجادة الشاقة، التي انتهت بالعلوم الحديثة، والمنجزات التي تفخر بها حضارتنا القائمة.

وربما سنخصص مقالًا عن الأسطورة وأهميتها وتكوينها، وما هى أشهر الأساطير التي انتشرت في حضارات الشرق الأدني القديم ومدى تشابهها واختلافها.

فلننتقل إذًا إلى بنية الدين:

 تتكون من ثلاثة مكونات أساسية، وهم: المعتقد، الطقس، الأسطورة.

 أولًا: المعتقد:

 هو أول أشكال التعبيرات الجمعية عن الخبرة الدينية الفردية التي خرجت من حيز الانفعال العاطفي إلى حيز التأمل الذهني، ويبدو أن توصل الخبرة الدينية إلى تكوين معتقد، هو حاجة سيكولوجية ماسة؛ لأن المعتقد هو الذي يعطي للخبرة الدينية شكلها معقول الذي يعمل على ضبط وتقنين أحوالها، فبعد تلك المواجهة الانفعالية مع القدسي في أعماق النفس، يتدخل عقل الإنسان من أجل صياغة مفاهيم من شأنها إسقاط التجربة الداخلية على العالم الخارجي، وموضعه القدسي هناك. 

والجدير بالملاحظة والاهتمام أيضًا؛ أن المعتقد الديني هو شأن جمعي، بمعنى أن عقول الجماعة تعمل على صياغة معتقداتها؛ حيث لم يصل إلينا خبر عن أهل الديانات القديمة، يفيد بأنهم أخذوا معتقداتهم جاهزًا عن جهة ما أو شخص بعينه. فشعوب سومر وأكاد مثلًا وكنعان ومصر واليونان تركت لنا مدونات عن معتقداتها وأساطيرها وصلواتها، دون أن تذكر شيئًا عن مصادر دياناتها سواء أكان كاهن أو عراف أو متنبئ من أي نوع، وأسفار الفيدا السنسكريتية المغرقة في القدم، مازالت تمارس تأثيرها العميق على الطوائف الهندوسية، دون أن يعرف أحد مصادرها والتواريخ الدقيقة لتدوينها.

إن آلهة المعتقدات القديمة بحاجة إلى البشر حاجة البشر إليها، وآلهة الإنسان القديم كانت تستمد حياتها من الناس الذين يحملونها في أفكارهم، كما كان الناس يستمدون منها طاقة روحية تعينهم على الاستمرار في الحياة، فما تحتاجه الآلهة من الناس حقًا هو الأفكار، أفكارهم عنها، أما العبادات والطقوس فلا تقدم للآلهة شيئًا يذكر إلا بمقدار ما تديم الذكر وتنعش الفكر الذي يحمل صورها.

يتآلف المعتقد عادة من عدد من الأفكار الواضحة والمباشرة، وتعمل على رسم صورة ذهنية لعالم المقدسات، وغالبًا تصاغ هذه المعتقدات في شكل صلوات وتراتيل، وسنذكر مثال لتلك التراتيل، هى ترتيلة أخناتون، والمرفوعة إلى الإله الأوحد "آتون" الطاقة الكونية المتمثلة في قرص الشمس، ترسم صلاة  أخناتون صورة لمعتقد على درجة عالية من التجريد، فإله الديانة الأتونية، كما يبدو هنا، هو قوة إلهية غير مشخصة؛ وطاقة صافية تأبى التشكل في هيئة إله ذي ملامح محددة وشخصية مرسومة، إنها القدرة التي صدر عنها الكون بكل أجزائه وتفاصيله وأشكال الحياة المنبثقة فيه، تتميز ترتيلة أخناتون بغياب الإشارات الميثولوجية، كل ظلال أسطورية ترافق عادة الصلوات الدينية، تقول الترتيلة:

"كم هو جميل شروقك في الآفاق، أي أتون الحي، بادئ الحياة

عندما ترتفع في الأفق يمل بهاؤك كل البلدان

تحيط أشعتك بكل ما خلقت من أصقاع، والكل أسري لك، وأنتَ "رع" تطوقهم بمحبتك....".

تتميز هذه الترتيلة والترتيلة الثانية القصيرة بإنها خالية من أي أساطير مثل: أسطورة الخلق والتكوين التي كانت منتشرة في حضارات بلاد الشرق القديم ومصر القديمة، لذلك تعتبر نقلة آنذاك في المعتقد.



ثانيًا: الطقس أو الطقوس الدينية:

تُولد الخبرة الدينية المباشرة حالة إنفعالية، قد تصل في شدتها حدًا يستدعي القيام بسلوك ما، من أجل إعادة التوازن إلى النفس والجسد اللذين غيرت التجربة من حالتهما ولعل الإيقاع الموسيقي والرقص الحر، كانا أول أشكال هذا السلوك الإندفاعي الذي تحول إلى طقس مقنن، ويترافق تقنيين الطقس وتنظيمه في أطر محددة ثابتة مع تنظيم التجربة الدينية وضبطها في معتقدات واضحة يؤمن بها الجميع، ويرون فيها تعبيرًا عن تجاربهم الفردية الخاصة. وبذلك يتحول الطقس من أداء فردي حر إلى أداء جمعي ذي قواعد وأصول مرسومة بدقة، ويتم ربط الطقس بالمعتقد بدل ارتباطه بالخبرة الدينية المباشرة، ومع ذلك، فقد يتعايش هذان النوعان من الطقوس في الثقافة الواحدة؛ حيث يقوم الطقس الحر جنبًا إلى جنب مع الطقس المنظم، يرسم المعتقد صورًا ذهنية واضحة وقوية التأثير للعوالم القدسية، ولكن الأفكار واحدها لا تصنع دينًا بالغًا ما بلغ من وضوحها واتساقها، بل قد تشكل في أفضل أحوال اتساقها فلسفة، رغم عنايتها الكلية بالمسألة الدينية. استنادًا إلى ما تقدم يمكن  القول بأن الطقس ليس فقط نظامًا من الإيماءات التي تترجم إلى الخارج ما نشعر به من إيمان داخلي، بل هو أيضًا مجموعة الأسباب والوسائل التي تعيد خلق الإيمان بشكل دوري، ذلك أن الطقس والمعتقد يتبادلان الاعتماد على بعضهما بعضًا. فرغم أن الطقس يأتي كناتج لمعتقد معين فيعمل على خدمته، إلا أن الطقس نفسه ما يلبث حتى يعود إلى التأثير على المعتقد فيزيد من قوته وتماسكه، بما له من طابع جمعي يعمل على تغيير الحالة الذهنية والنفسية للأفراد. وهذا الطابع هو الذي يجدد حماس الأفراد ويعطيهم الإحساس بوحدة إيمانهم ومعتقدهم فالطقس، رغم قيامه على مجموعة من الاجراءات المرتبة والمنسقة مسبقًا.

لهذه الأسباب يظهر الطقس للمراقب باعتباره أكثر عناصر الظاهرة الدينية بروزًا، ويقدم نفسه كأول معيار نفرق بواسطته الظاهرة الدينية عن غيرها من الظواهر، لأن الدين لا يبدو للوهلة الأولى نظامًا من الأفكار، بل نظامًا من الأفعال والسلوكيات، والمؤمن ليس إنسانًا قد أضاف إلى معارفه مجموعة من الأفكار الجديدة، بل هو إنسان يسلك ويعمل بتوجيه من هذه الأفكار[1].

أما عن المكون الثالث للدين -الأسطورة- فسنخصص له مقال أخر، بإذن الله.

وبهذا نكون أنهينا الجزء الخاص لماذا يحتاج الإنسان إلى أن يؤمن بشيئٍ ما. وكيف تتطور معه هذا الأيمان بدايةً من تأمله في الطبيعة، إلى تكوين معتقد خاص بكل مجموعة بشرية ثم طقوس تترجم تلك المعتقدات إلى فعل، ومِنْ ثَم إلى أساطير تضم شخصيات خيالية من نتاج البيئة المحيطة بهم، لتعطي لهم الأمل في تحقيق أي شئ، وفي الغوص في أعماقهم الداخلية.

وسننتقل الآن إلى الجزء الأخير، ألا وهو لماذا يُلحد البعض؟

كتب "ريتشارد داوكنز" هو عالم ملحد، كتاب تحت عنوان "وَهم الإله..؟"؛ حيث عرض فيه فكرة "فرضية المصمم تثير مباشرة مشكلة أكبر لمصمم المصمم"، أي "فمَنْ خلق الله...؟"، وهذا السؤال مما لا شك فيه ورد على أذهاننا نحن أيضًا، لأنه سؤال حاضر حضور تفكر الإنسان في ربّه، ولكن لم تكن هذه المرة الأولى التي أثار بها هذا السؤال، فقد ذُكرعن النبي الكريم "محمد" -صل الله عليه وسلم-،

"لن يَبرَحَ الناسُ يسألون عما لم يكنْ، حتى يقولوا: هذا اللهُ خالقُ كلِّ شيءٍ، فمن خلق اللهَ؟[2]

"يَأْتي الشَّيْطانُ أحَدَكُمْ فَيَقُولَ: مَن خَلَقَ كَذا وكَذا؟ حتَّى يَقُولَ له: مَن خَلَقَ رَبَّكَ؟ فإذا بَلَغَ ذلكَ، فَلْيَسْتَعِذْ باللَّهِ ولْيَنْتَهِ"[3].

إذا حل هذا السؤال الي يأتي على أذهاننا، هو الاستعاذة بالله، وذلك للمؤمن، أما الذي يؤمن بأي دين أخر، سيقوده السؤال إلى الكثير والكثير من البلبلة.

وسنحاول جاهدين أن نرد على تلك الشبهة هذه الشبهة في المقال القادم، لذلك على وعد مني باستكمال ما شرعنا به هذه المرة.... إلى اللقاء عزيزي القارئ ولتدبر ما ورد هنا بحكمة.

وبهذا تكون انتهت رحلتنا التي حاولت بها أن أبسط على قدر استطاعتي ما بها من معلومات، وأرجو من الله أن أكون قد أضفت لكم، معلومة جديدة اليوم، "فمَنْ قَضَى يومه في غير فرض أداه، أو علم اكتسبه، أو مجد حصله، فقد عق يومه وظلم نفسه" -علي بن أبي طالب-، فلكم مني المزيد من الدعوات بالعلم والمعرفة.


المراجع:

تهافت الفلاسفة، لأبي حامد الغزالي.

فراس السواح، دين الإنسان، مغامرة العقل الأولى.

كارن أرمسترونج، الله لماذا؟.

سامي عامري، فمن خلق الله؟

ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون.

جيمس فريزر، الغصن الذهبي دراسة في السحر والدين.

عصام الدين حنفي، اليهودية في العقيدة والتاريخ.



[1] للمزيد انظر إلى دين الإنسان، فراس السواح، موسوعة تاريخ الأديان

[2] الراوي: أنس بن مالك| المحدث: الألباني | المصدر: صحيح الأدب المفرد

الصفحة أو الرقم: 971 | خلاصة حكم المحدث: صحيح

التخريج: أخرجه البخاري (7296) وفي ((الأدب المفرد)) (1286) واللفظ له، ومسلم.

[3] الراوي: أبو هريرة | المحدث: مسلم | المصدر: صحيح مسلم.

الصفحة أو الرقم: 134 | خلاصة حكم المحدث: [صحيح].

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة