دين الإنسان ד

 

كتب: منة الله عامر

لنغوض في خضم هذا المقال ولنجيب على ما عرضنا عليكم في المقال السابق من أحد أهم الشبهات التي يجادل بها الملحدين، هيا بنا وأرجو منكم ألا تملوا من القراءة.. 

 لنعود إلى السؤال، فمن خلق الله؟ يعرض بعض الملحدين نظرية أن لكل حادث سببًا خارجًا عنه، لكنهم يرون أن مبدأ السببية لابد أن يؤول إلى القول بسلسة متناهية من الأسباب في الماضي.

يرفض الاعتراض في ظاهره فكرة التسلسل اللامتناهي للأسباب في الماضي لكنه يقوم في حقيقته على رفض مبدأ السببية، ولو جزئيًا في مسألة العالم المخلوق.



يرى أصحاب الاعتراض أنه لم يقم داع لاستثناء الإله من مبدأ السببية، فلا حجة للقول إنه "السبب الأول" الذي لا يسبقه سبب.

يرى أصحاب الاعتراض "أن كل حادث لا بد له من محدِث" – "كل شئ لابد له من مُحدِث".

إذا كان من المعقول أن يوجد ما\ من لا سبب له، فليكن هو العالم المادي الذي نوقن بوجوده، بما يدفع الإشكال، بدلًا من الإله الذي اختلف الناس في وجوده؛ لن ذاته غيب غير مشهود.

ولابد من الإشارة إلى أن سؤال "فمن خلق الله؟" يعتبر في الإسلام "شُبهة" ولها أساس للرد عليها، فتقع هذه الشبهة في زمن يرى فيه أنصارها عجز التفكير الديني عن الحديث عن الكون وأصله، وأن العلم له حق ابتكار الحديث في هذا الشأن وفي غيره من قضايا الإنسان الكبرى، وي هذا يقول "داوكنز" ساخرًا:" إذا كان العلم لا يستطيع الإجابة على بعض الأسئلة النهائية، فما الذي يجعل أي أحد يعتقد أن الدين بإمكانه فعل ذلك؟ أشك في أن الفلكيون في كمبردج أو أوكسفورد حقيقة أن للاهوتيين أية ملكة تمكنهم من الإجابة على أسئلة أعمق من أن يطالها العلم".

إذا عرضنا السؤال الذي يجعل البعض يرفض فكرة وجود خالق للكون.

     الفكرة الأساسية التي بثبوتها يصبح سؤال المعارضين بلا معنى، هى أن الله -سبحانه وتعالى- متعال على الزمان؛ أي: إن وجوده ثابت "قبل" وجود الزمان، فهو مخرج الزمان من العدم إلى الكينوية الواقعية، أو قل هو مزمّنه، وبثبوت خلق الله للزمان أو وجوده غير المزمّن، يغدو الحديث عن خاللق الخالق بلا معنى؛ لأن خلق الخالق يقتضي وجود زمان، ووجود الله خارج الزمان من صنعته؛ أن الله بلا خالق، ويمكن إثبات ذلك عن طريق أمرين:

-الزمان الذي هو أثر للمكان كما سيأتي، مخلوق.

-أو أن وجود الله حتم لازم عقلًا في كل حين، ولا يمكن أن يخلو الوجود من وجوده.

فلابد أن نعرف علاقة الله سبحانه وتعالى بالزمان، سنخوض معًا رحلة مختلفة كلية عن الرحلات التي خوضنها من قبل، سنفهم أن هناك دليل كوسمولوجي كلامي -فلسفي- يثبت أن الله خالق ليس له خالق، أي لا زمان سبقه، فهو سرمدي أبدي أزلي، وهذا الدليل يعتبر -دليل الحدوث-.

اشتهر دليل الحدوث في الكتابات الفلسفية في الغرب باسم (الدليل الكوسمولوجي الكلامي)، وعبارة الكلامي نسبة إلى (علم الكلام) الإسلامي[1]، والذي هو يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، وتسميته بدليل الحدوث تراثيًا راجع إلى أنه متعلق بنشأة الشئ بعد العدم، كتب "سام هاريس" أحد أعمدة الكتاب الملحدين في العصر الحالي، وإن كان جدله الأكبر في فائدة الدين كمكون قيمي وسياسي للمجتمع؛ حيث اعتراض على الدليل الكوسمولوجي "يطرح مفهوم الخالق بصورة مباشرة مشكلة التقهقر اللانهائي، إذا كان الكون قد خلقه الله، فمن خلق الله، القول: إن الله بالضرورة غير مخلوق، هو افتراض غير مبرر لصحة ما يُطلب إثباته"،اعلم عزيزي القارئ أن الموضوع مركب وربما تشعر بإنك لا تفهم شئ أو أن الموضوع غير مرتب، وربما هو ذات الشعور الذي يعترني وأنا أكتب الآن، ولكن فقط أكمل معي المقال، وكرر قرأته مرة أخرى حتى تهضمه.

يتفق المسلمون وعامة الملحدين وبقية العقلاء على أنه:"لا ينشأ شئ من لا شئ"، وبالنظر في الكون اليوم، علمنا أن الكون لا يمكن أن يكون أزليًا؛ لأنه لا يحمل شروط الكائن الأزلي، ولو افترضنا أنه سُبق بكونٍ أخر كان وانتهى، فسيكون ذاك الكون متناهيًا في النهاية، وبالتالي متناهيًا في البداية، ومن الممكن أن نستمر في تصور أكوان سابقة، ولكنها ستكون كلها مخلوقة ضرورة؛ لأن لها نهاية، وما كانت له نهاية فله بداية، ولا حل لهذا التسلسل إلا بإن نفترض كائنًا أول لا بداية له؛ أي: متعال على الزمان، إذ الزمان نفسه مخلوق، ومن إرادة هذا الأول نشأ العالم. وهو الذي نسميه نحن: الله سبحانه وتعالي.

يقول الفيلسوف "أوستن فرار" في تحديد محل النزاع: "ليس الإشكال بين الملحد والمؤمن حول شرعية التساؤل عن الحقيقة النهائية، وإنما حول سؤال:"ما هى الحقيقة التي تعتبر نهائية؟"، الحقيقة النهائية للملحد هى الكون وللمؤمن هى الله".

الضرورة العقلية قائمة على وجوب الاعتقاد في وجود مَنْ\ ما لا زمن قبله، والفيصل في الخيارات  المطروحة لا ينفي وجود الأول غير المسبوق بعدم وإنما يحدد هويته. فلا مفر إذن من القول بمن لا سبب لوجوده، ومن لا زمن يسبقه. لا ريب أن العقل البشري لا يستطيع أن "يتصور" كائنًا لا أول له، لكن علينا هنا أن نميز بين التصور والتعقل؛ فالتصور هو أن تنشئ للشئ صورة في الذهن، في حين أن التعقل هو أن تقبل أن هذا الشئ موافق العقل أو لا يخالف ضرورات العقل.

إذا كيف نتجاوز هذا الإشكال:

لابد أن نرجع إلى تعقل العقل لا تصور العقل؛ لأن التصور محدود بالبيئة والمألوف، في حين التعقل، قائم على مجموع قواعد مجردة. فالقضية إذا ليست عدم التصور الشخصي، وإنما هى عدم المعقولية الموضوعية، أي عدم تناسق المفهوم منطقيًا، وهي هذا يقول أبي حامد الغزالي في كتاب تهافت الفلاسفة:"وهذا كله لعجز الوهم عن فهم وجود مبتدأ إلا مع تقدير "قبل" له، وذلك "القبل" الذي لا ينفك الوهم عنه، نظن أنه شئ محقق موجود هو الزمان، وهو كعجز الوهم عن أن يقدر تناهي الأجسام في يلي الرأس إلا على سطح له فوق، فيتوهم أن وراء العالم مكانًا، إما ملاء وإما خلاء، وإذا قيل: ليس فوق سطح العالم فوق ولا بعد أبعد منه، كإن الوهم عن الإذعان لقبوله، كما إذا قيل:"ليس قبل وجود العالم "قبل" هو وجود محقق، نفر الوهم أيضًا عن قبوله".

ونبّه "بول ديفيس" في كتابه الرب والفيزياء الحدثية، على قصور التصور الذهني، وجنايته على العقل عند طرق باب التصورات الكونية الكبرى، قائلًا:"فشل الخيال البشري في فهم بعض الميزات الهامة للواقع، هو تنبيه لنا أنه لا يمكن أن نتوقع تأسيس الحقائق الدينية الكبرى على تصورات ساذجة عن المكان والزمان والماد مستمدة من التجربة اليومية.

إن من مبادئ التعقل أنه لا يستقيم أنيوجد الشئ دون موجد له، فإن هذا الموجد إما أن يكون:

-خارج الشئ.  أو الشئ ذاته. أو لا وجود لموجد.

الاحتمال الثاني مرفوض بالطبع؛ ونستخلص أن كلا من الملاحدة والمؤمنين، بإن اتفق كلا منهم على وجود من لا أول له.

كتب "دافيد هيوم" مستنكرًا:"لماذا لا يكون الكون المادي هو الكائن واجب الوجود، طبقًا لهذا التفسير المدعّي للوجوب".

والملحد يرى أن المادة أوجدت نفسها من العدم، وهذه النظرية لا صحة لها[2]. 

ويمكننا القول بعد هذا العرض ربما الملل للبعض والشيق للبعض الاخر، أن المجادلات التي تريد أنتثبت بإن لا يوجد خالق للكون، تم نفيها منطقيًا بإنها غير صحيحة؛ حيث لا يمكن للمادة أن توجد من عدم، وأن الخالق هو متعال على الزمان وهو الذي سبق الزمان لأنه خالقه، وقبل عرض هذه الشبهه تناولنا لماذا يحتاج الإنسان للإيمان بأي شئ، وتابعنها لماذا لا يؤمن البعض بشئ، ويمكنني أن نقول بهذا التضاد يسير العالم، فلابد مع وجود المؤمنين وجود أخرون لا يؤمنون بشئ، هكذا هو الكون، الشئ ونقيضه، "وكان الإنسان أكثر شئ جدل"، لابد لنا من قراءة متأنية وتدبر لكتاب الله عزوجل، وستفهم وينير الله بصيرتك للحق.

وبهذا تكون انتهت رحلتنا التي حاولت بها أن أبسط على قدر استطاعتي ما بها من معلومات، وأرجو من الله أن أكون قد أضفت لكم، معلومة جديدة اليوم، "فمَنْ قَضَى يومه في غير فرض أداه، أو علم اكتسبه، أو مجد حصله، فقد عق يومه وظلم نفسه" -علي بن أبي طالب-، فلكم مني المزيد من الدعوات بالعلم والمعرفة.

المراجع:

تهافت الفلاسفة، لأبي حامد الغزالي.

فراس السواح، دين الإنسان، مغامرة العقل الأولى.

كارن أرمسترونج، الله لماذا؟.

سامي عامري، فمن خلق الله؟

ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون.

جيمس فريزر، الغصن الذهبي دراسة في السحر والدين.

عصام الدين حنفي، اليهودية في العقيدة والتاريخ.

 

 

 

 



[1] أنكر طائفة من أهل التحقيق على علم الكلام عددًامن الأمور، وكإلزام المتكلمين كل المسلمين إقامة الجدل الكلامي في ما لا يبلغه العقل، والخوض في ما لا طائل من وراءه غير الظن والحيرة، ولا ينفي ذلك صواب ما قدمه علماء الكلام في عامة استدلالاتهم على وجود الخالق، فهى أدلة عقلية، منها ما جاء به النص القرآني، ومنها ما لا يخالف النص ويوافق الحق. 

[2] للمزيد أنظر إلى، فمن خلق الله، لسامي عامري.

تعليقات

المشاركات الشائعة