الشر ووجود الله

 كتب: منة الله عامر 

      ما زالت فكرة الشر تسيطر على أحاديث الفلاسفة والأديان والكثير من البشر!     

   لماذا لم يخلق الله العالم، خاليًا من الشرور والأمراض والأوبئة وآلام السرطان التي تطول الطفل الرضيع والشيخ الطاعن وكل تلك الجرائم، وهو القيوم القادر على كل شيء! إذا فهل الشر يعترض مع فكرة وجود الله وعدله!

لا يمكننا أن ننكر الخير الغامر في الكون؛ بسبب أمر ما يبدو للبعض عبثًا، وإنه لا يمكن للعاقل أن ينكر جانب العظمة والحكمة والغائية في هندسة هذا الكون المنيف فيه آلاف الغرف المهيئة للراحة والمتعة، طبق معادلات حسابية وهندسية واعتبارات غاية في الدقة والإذهال؛ لأن جانب أو بعض الجوانب غير مرتبة على ذوقه ولا تحقق الإمتاع الذي يريده، ليس من العقل هنا أن نزعم:

- إنه يجب أن يبلغ تصميم الإله القدير ذروة الكمال.

-من أجهزة الكائنات الحية، والجمادات ما ليس على صورة كاملة، بل بعضها سبب لتلف الكائنات الحية.

-إما أن الله -حاشا عزوجل- عاجز على أن يحسن تصميم خلقه أو أنه لم يخلق هذا الخلق بما ينفي أنه موجود، وذلك يبطل التصور الإلوهي للخالق، وهذا التصور نتيجة لمغالطة تزعم بإن وجود الإله الخالق الكامل يقتضي أن يكون خلقه كاملًا في أفراده، وهذه المغالطة هى افتراض أن كمال الله يتعارض مع إرادته، وبذلك فإرادته مقيدة بكماله، بما يلزم منه أن يكون خلقه للأعيان من المخلوقات في الذروة من الكمال، فلا وجع ولا مرض ولا موت.

هذا الاعتراض يفترض أن الحكمة تقتضي أن يكون كل مخلوق كامل الصنعة في ذاته، ولكن تكمن الحكمة في خلق الناقص.



ومن هنا يظهر فكرة عدم وجود خالق، وأن الكون نشأ من لحظة عبثية بحتة، لا مبرر لها ولا قيمة، وأن الفوضى هي التي تحكم الكون، فأصبح لكل شخص دين، ولا وجود للإله؛ فنرى مَنْ يكون دينه هواه، ومَنْ يكون دينه موسيقى، ومن يكون دينه العلم، وغيرهم.

 ولكن لماذا يحمل الإنسان هذا الحس العالي لقيمتي الخير والشر؟

في عالم المادة التي لا روحانية بها ولا إله، كما يزعمون، فإن دعاوي المادية مثل: التفوق العرقي، والبقاء للأقوى، وشهوة القوة من الممكن أن تفسر الظلم والأنانية والفساد في الأرض، غير أن معاني الحنان والرحمة والإيثار، والتضحية بالنفس في سبيل فكرة نبيلة لا يمكن أن تجد لها مكانًا في عالم المادة الإلحادي الذي لا يعترف بغير المادة وقوانينها، وإن ظلم الظالم لا يفاجئ الملحد؛ لأن فيه استسلامًا لقانون الرغبة في البقاء، غير أن التضحية والإيثار يقفان ضد عالم المادة التي بلا قلب.

إذا لدينا قولان؛ القول الأول: ليس هناك إله:

*فإذا لم يكن هناك إله، فعلينا أن نتنبأ بأمور ثلاثة:

-لا وجود لقوانين منتظمة في الكون، وإنما هي عفوية العبث.

-لا وجود للخير؛ إذ لا يجتني من العبث معنى.

-لا وجود للشر؛ إذ لا معنى للشر في كون لا يحمل معيارًا قيميًا يميز بين الخير والشر.

*للكون قوانين تحكمه.

*في الكون خير وشر.

*نفي وجود الله يعارض المعلوم من واقع الكون. (أي من قوانينه وأحكامه ونظامه الخاص).

*إذا، الله موجود.

إن معاني المفاهيم مثل: الواجب والخير والشر، لا يمكن أن توجد في عالم بلا إله، وبعبارة أخرى" هل من الممكن أن يُجتني من الفوضى معنى معقول أو قيمة خُلقية ثابتة؟؟

القول الثاني: هناك إله:

*إذ كان هناك إله، فعلينا أن نتنبه لأمرين:

-خلقنا الله لسبب وحكمة، وله الحق في أن يسمح للشر أن يوجد لأجل تحقيق السبب والحكمة، سواء بلغت عقولنا هذا السبب وهذه الحكمة أم لم تبلغ ذلك.

-تعالى الرب عن خلقه، وعظمة قدرته وعلمه وحكمته البالغة في مقابل محدودية مداركنا العقلية، حجة لن نتنبأ بأن معارفنا أقصر من أن تحيط بكل دواعي وجود الشر، بما يعني أن بعض الشر قد يبدو لنا بلا حكمة، وإن كان واقعه عكس ذلك.

*النظر العقلي يتيح لنا أن نربط الكثير من شرور الكون بحكم ومصالح، ومع ذلك تنأى بعض الشرور عن أن نفهم الحكمة من ورائها دون الإستعانة بإرشاد الوحي.

*التصور الألوهي يحقق نبواءته بجدارة ويثبت تناسقه الداخلي.

إذا الله موجود.

تصور عبثي للخلق:

الذين يؤمنون بأن الكون خُلق من عبث، فهم يرون أن الخلق بلا غاية وبلا هدف، فالرب هنا يخلق لأنه يجب أن يخلق، وهو ملزم أن يجعل هذا العالم في أحسن صورة ممكنة، لأنه لا يملك مشيئة خلق العالم أدنى من الكامل. وهو يخلق عالمًا كاملًا حتى يحصل الإنسان أقصى درجات السعادة، ولكن هذا يُنزل الإله من مرتبة الخالق إلى مرتبة الخادم!

يقول الله عزوجل:

"أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ" سورة المؤمنون 115

"أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى" سورة القيامة 36

"وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ، لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ" سورة الأنبياء 16 – 17.

يقرر الإسلام أن الله قادر على خلق عالم يحقق للإنسان منتهى اللذة والمتعة والسعادة والتنعم، وهذا العالم هو الدار الآخرة:

"وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" سورة العنكبوت 64

"وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ۖ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" سورة الزخرف 71

فدنينا إذا ليست هي النموذج الأمثل للدار التي يرجوها الإنسان؛ إذ هي دار اختبار وامتحان لا دار جزاء بلا وحشة؛ ففيها ضرام الفتن والمحن الدافعة لا تفتر ولا تخمد، قال رسول الله صل الله عليه وسلم، "حُفت الجنة بالمكاره وحُفت النار بالشهوات". فالإنسان تتجاذبه أمور يكرهها تدفعه عن طريق الجنة، وأخرى يحبها تجذبه إلى غير صراط الله، فإذا وفق في المحنة دخل عالم لا شر فيه، إذا غاية خلق الإنسان ليست إذا إسعاد الإنسان إنما اختباره على محك العبودية.

إذا لماذا خلق الله الشر؟

أولًا الشر الأخلاقي: الشر الأخلاقي هو أفعال او تروك السوء التي يأتيها الإنسان بإرادته الحرة، كالكذب والسرقة والقتل.

إذا هو نتيجة لحرية الإرادة، فإذا لم يمحننا الله حرية الاختيار وحرية الإرادة، لكنا جميعا مسلمون له ولا حيلة لنا في أي شيء، فقال الله تعالى:" ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" سورة الروم 41

فنستخلص مما سبق:

-خلق الله كل أمر حسن.

-من الأشياء الحسنة التي خلقها الله، الإرادة الحرة.

-الإرادة الحرة سبب لإمكانية وقوع الشر.

-إذن، المخلوق الذي خلقه الله خيرًا يمكن أن يفعل الشر.

وإن هذه العطية الثمينة للإنسان لابد أن توصل بحقيقة الوجود الامتحاني للإنسان على الأرض لندرك، لإنها ليست عطية مجانية، وان ما ينتج عنها ما أثر سلبي إنما هو جزء جوهري في هذا الامتحان.

يقول "هوبرت بوكس" (يبدو أن حياة الإنسان، امتحان.. بما ان الله قد جعل الإنسان ينال عاقبه فعله، فإن تلك النعمة ينبغي أن تمنح له كجزاء لجهده، فليس هناك إذا مفر من أن يكون للإنسان إمكانية اختيار الخطأ، فقط عندما نكون معرضين لإمكانية الهزيمة، نكون مستحقين لجزاء النصر). من كتابه مشكلة الشر، ص 56.

ثانيًا: للشر المادي، أو الشر الذي لا دخل لنا به:

 مثل: الأمراض والأوبئة الفتاكة والزلازل والبراكين والمجاعات.

يقودنا للنظر إلى أمور أربعة:

-الطبيعة المادية التفصيلية للكون.

-صفات الله سبحانه وتعالى.

-سبب خلق الإنسان في المعتقد الإسلامي.

-الحِكم التفصيلية من وراء النوائب كما جاءت في نصوص القرآن والسنة.

سوف نحصر فقط أمثلة ونماذج للكل نقطة من النقاط الأربعة السابقة.

ما الشر إذا لم يكن هناك خير؟  الإثنان وجهان لعملة واحدة، فلا يكون أحدهما دون الآخر، فلا معنى للنجدة بغير الظلم، ولا معنى للصفح بغير الإساءة، ولا معنى للهمة والسعي بغير الحذر من مكروه والشوق إلى مأمول.

عبر أستاذ "يونج" أستاذ الأخلاق في جامعة كامبردج، "إنها لحقيقة واقعة بإن ثمة خيرات، لا تأتي بغير محصول الشر، فكيف تتسنى الفضيلة مثلًا بغير المغريات والعوائق ومن ثم بغير الشر ولو في صورة الألم والعرقلة؟ وكيف توجد شجاعة بغير ألم ومشقة وخطر؟ وكيف يوجد الحب في أرفع حالاته التي نعرفها ما لم يكن هنالك داعية للعطف والإشفاق والتضحية، لابد من شر نغلبه؛ كي نحصل على فضيلة الغلبة عليه، وربما كان هناك ضروب أخرى للحب والفضيلة كالتي نتخيل أن الكائنات العليا التي تعلو على طوق الإنسان متصفة بها، ولا تنطوي على شر الشرور، ولكنها- إذا صح تخيلنا نوع أخر غير حبنا وفضيلتنا، وكلما تعددت أنواع الفضائل كان ذلك أفضل وأجمل".

إن الشر هو الذي ينفث في الخير روح الوجود وريح النسيم، إنه وقود حركته وسبيل استوائه، إن نقص العالم هو الذي يستحث وجودنا إلى السعي إلى الكمال، وإن أثقال الشر هي التي تحركنا إلى ارتقاء معارج الخير.

باختصار في مجال لا يقتضي الإجمال، لن نشعر باللذة على هذه الأرض ونستعذب رُضاب المتعة حتى تختبر أفواهنا طعم المر وتجري على الخد دمعة الحسرة.

ظهور حكمة الله وصفاته:

لابن القيم عبارة أنيقة: "الحكمة إنما تتم بخلق المتضادات والمتقابلات كالليل والنهار، والعلو والسفل، والطيب والخبيث، والخفيف والثقيل، والحلو والمر، والألم واللذة، والحياة والموت، والداء والدواء....".

 استخراج الفضائل الخلقية من نفوس الناس:

في قعر النفوس البشرية حِزم من الفضائل الخلقية التي تشع بها النفس جمالًا وتحقق في الإنسان كمال صورته الإنسانية، وكثيرًا ما تغيب هذه الصفات تحت غلالة النعيم أو هي مقبورة في الأعماق الدنيا للنفس، فلا تستخرجها من مكامنها سوى المشقات والأزمات، فعند الجوع والزلازل، تظهر معاني الشجاعة والكرم والعطاء والتآلف والتحاب.

إن الإنسان الذي يعيش في فسحة من السعة وطراوة من النعيم، يأتيه رزقه رغدًا، فلا يعرف آلم الدنيا شيئًا، هو إنسان مخبوء في نفسه، لا يعرف من حقيقته إلا قشرتها، ولا يدرك من ملكاته غير طاقتي الاستهلاك والاستمتاع.

"إن محنة اليتم، وفتنة الفقر، وقرصة الجوع، كانت حوافز أساسية في صقل مواهب البعض، وتنشئتهم على معاني الجد وروح الصلابة وقيم الثبات لتصنع منهم أئمة في نحت التاريخ وكتابة الأمجاد".

إن نعمة إنماء الشخصية بتهذيبها من خلال التجارب المؤلمة هي ما يسميه الفيلسوف الثيوديسي الشهير، "جون هك" بصناعة النفس، باعتباره مبررًا منطقيًا لوجود الشر في حياتنا؛ فالعالم المبرأ من الألم، يحرم الإنسان من تنمية ذاته ويبقيه على نفس الصورة البسيطة التي بدأ منها".

فإن البيئة المبرأة من الإغراء والإغواء لا تسمح لنا بأن نصف الناس أو بعضهم بالصلاح، ولذلك فالحياة في الخطة الإلهية طريق يصعد بالإنسان إلى ذرا المجد بالمشي على مستصعبات الأمور ومدافعة وهن النفس.

وحسب المعتقد الإسلامي، فإن الشرور لها قيمة أخرى، وهى اختبار إيمان الفرد، فيقول الله سبحانه وتعالي: "أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ" سورة العنكبوت

"وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ" سورة الأنبياء

إن تقلب الإنسان بين طباق الشر والخير، مختبر لإيمانه، وبه ينكشف صدق الولاء للمعتقد الحق، إن كان على دين الحق، وإلا فهو تحفيز لعقله واستحثاث لقلبه أن يتفكر ويتدبر في أمر هذا الخلق، وما وراءه، وأمر هذا الوجود وما يحركه.

يقول الشاعر:

"لولا المشقة ساد الناس كلهم – الجود يفقر والإقدام قتال"

فالناس أمام الشر فسطاطان، فسطاط المؤمنين المتجانفين عن الشر، وفسطاط الواقعين فيه بقصد:

"وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ۚ ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ". سورة ص

"أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ، وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ" سورة الجاثية

أيضًا يبتلي الله العباد، ليتوبوا إليه، وليكفر عنهم خطاياهم، وليردهم إليه، وليعلم العباد بحقارة هذه الدنيا، إذا ألف العافية وذُللت له النعمة.

إذا ليس الشر هو عدونا، وإنما هو الكاشف الأمين عن العدو الحقيقي.

فمدام هناك خالق قادر، فلابد من وجود الشر والخير، ولكل شيء حكمة، فتأملوا قدر ما استطعتم من مجريات الأمور، وستروا في الظلمة كما ترون في الضوء. 


المصادر والمراجع:

القرآن الكريم. 

السنة النبوية. 

كتاب: نظرية الشر، د.عزت قرني.

كتاب: الله، عباس العقاد.

كتاب: مشكلة الشر ووجود الله، د. سامي عامري. 

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة