الله ليس ذكرًا وحواء لم تغوِ آدم: الكتاب المقدس بعيون نسوية
الله ليس ذكرًا وحواء لم تغوِ آدم: الكتاب المقدس بعيون نسوية
في يونيه 1972م رُسِمَتْ «سالي برايساند» حاخامًا (حاخامة) بالمعبد الإصلاحي، وفي العام التالي وافقت اليهودية المحافظة[1] على أن تحسب النساء من ضمن نصاب[2] الصلاة في المعبد، وسمح لهم بقراءة التوراة في المعبد، وكانت تلك الأمور في اليهودية مقصورة فقط على الرجال؛ حيث شهد القرن التاسع عشر تغييرات فكرية ودينية عديدة في العالم الغربي، أدت إلى رؤية جديدة للتاريخ البشري على يد من النساء اللاتي نادين بالنظر إلى التاريخ وبالأخص إلى العهد القديم والكتاب المقدس نظرة جديدة تكون الأنثى هي مركزها وأساسها.
حركات التمركز حول الأنثى
في تصورنا أن كلمة «Feminist» لها ذات المعنى عندما نقول «Women’s liberation movement»، ولكن العبارة الأخيرة تعبر عن حركات تحرير المرأة، أما كلمة «فمينيست» فهي تعبر عن حركات التمركز حول الأنثى؛ وهي مختلفة كل الاختلاف عن حركات تحرير المرأة.
فحركات التمركز حول الأنثى؛ هي رؤية معرفية أنثروبولوجية تصدر عن مفهوم أساسي هو أن تاريخ الحضارة البشرية ما هو إلا هيمنة الذكر على الأنثى، وهى هيمنة حدثت إثر معركة أو مجموعة من المعارك تمت في عصور موغلة في القدم حينما كانت المجتمعات كلها مجتمعات «أمومية» تسيطر عليها الأنثى أو الأمهات، وكانت الآلهة إناثًا، فعاشت عصورًا من الرقة والوئام والاستدارة التي تشبه- أعضاء التأنيث- ثم سيطر عليها الذكور وأسسوا مجتمعًا مبينًا على الصراع والسلاح- الذي يشبه عضو التذكير- وعلى الغزو الذي يشبه اقتحام الذكر للأنثى.
انطلاقًا من هذه الرؤية للتاريخ، تطرح حاملات دعوة التمركز حول الأنثى برنامجًا إصلاحيًا يدعو إلى إعادة صياغة كل شيء؛ التاريخ واللغة والرموز بل والطبيعة البشرية ذاتها. فالتاريخ في تصورهن هو سرد للأحداث من وجهة نظر ذكورية، لذا لا بد وأن يعاد سرده من وجهة نظر أنثوية، مثلما يجب إعادة النظر في اللغات التي عادة ما تفضل صيغة التذكير على صيغة التأنيث لا بد وأن يعاد بناؤها؛ بحيث تستخدم صيغًا محايدة أو صيغًا ذكورية أنثوية.
ذكر دكتور عبد الوهاب المسيري في كتاب «اليد الخفية دراسة في الجماعات اليهودية السرية والهدامة»، أن تلك الحركات رؤيتها الكامنة هي رؤية حلولية تستند إلى رؤية واحدية كونية إذ تحاول اختزال الكون بأسره إلى مستوى واحد، فتدمج الإله والطبيعة والإنسان والتاريخ، في كيان واحد وتحاول أن تصل إلى عالم جديد تمامًا تتساوى فيه الأطراف بالمركز، عالم لا يوجد فيه قمة وقاع ولا يمين ولا شمال، ولا ذكر ولا أنثى، وإنما يأخذ شكلًا مسطحًا تقف فيه جميع الكائنات الإنسانية والطبيعية على نفس السطح وتصفي فيه كل الثنائيات المعروفة، فتصبح كل الكائنات شيئًا واحدًا[3].
ومن منطلق هذه الآراء، فإن حركة التمركز حول الأنثى لا ترفض التفاوت بين الذكر والأنثى وحسب، وإنما ترفض الاختلاف ذاته، وترفض توزيع الأدوار وتطالب أن يصبح الذكور آباء وأمهات، والإناث أمهات وآباء، ويمتد الأمر للمشاعر ذاتها فالأنثى لا يجب أن تختلف مشاعرها عن الرجل.
الرؤية النسوية للتاريخ والدين
في الغرب أثناء عصر التنوير وبألمانيا تحديدًا؛ ظهرت أولى حركات التمركز حول الأنثى بين اليهوديات، وذلك لعدة أسباب:
-فاليهوديات لم يتلقين التعليم الديني كما تلقاه الذكور اليهود.
-لم يُؤدين أي شعائر دينية- فلم يسمح لهن حسب المعتقد اليهودي ممارسة أيًا مما سبق- فكان من السهل واليسير أن تكون مؤسسات حركات التمركز حول الأنثى من الأقلية اليهودية الإناث.
وكان من رائدات هذا التوجه صاحبة أول صالون نسائي، هي «راحيل فارنهاجن» والأديبة اليهودية الألمانية «إما لازاوس»، ونساء يهوديات في الحركة الشيوعية مثل: «روزا لوكسمبرج»، وفي الحركة الصهيونية مثل: «هنريتيا سيزولد»، وانضم إليهن العديد من النساء غير اليهوديات أيضًا.
أثرت الأفكار النسوية على الجماعات اليهودية والعقيدة اليهودية، وأحدثت آثارًا جذرية بها، فركزت نساء الحركة عناصر ترضي شعورهن من التراث والأساطير اليهودية، ومن أبرز الأساطير والحكايات «أسطورة ليليث»، فهى رمز التمرد الأنثوي، ففي الأساطير اليهودية ليليث خلقت قبل حواء، فهى الزوجة الأولى لآدم وتمردت على وضعها كأنثى ورفضت أن يطأها الرجل، مِنْ ثم تمردت على آدم ثم تمردت على الإله.
وحسب الأسطورة أصبحت ليليث تنتقم من الرجال والنساء المتزوجات بأن تقتل الأطفال المولودين، وهو ما يُمكن النظر إليه باعتباره نسقًا فكريًا يعكس روح التمرُّد الأنثوي المطلوبة، فليليث ليست عكس حواء، بل عكس الأنوثة والأمومة والحالة البشرية ذاتها، وفي عام 1976 صدرت مجلة باسم ليليث لتعبر عن حركات التمركز حول الأنثى، أسستها سوزان وايدمان شنايدر[4].
وتأثرًا بليليث صرّحت «جوديت بلاسكو» وهي إحدى مفكرات الحركة، بأنهن يسعين إلى توسيع نطاق التوراة[5]، فهى تريد إعادة النظر في وضع المرأة في سياق العقيدة اليهودية، وتحررها من القيود التي ألقتها عليها تلك العقيدة[6].
كما أقرت «إليزبيث ستانتون» وهى رائدة في مجال تفسير الكتاب المقدس تفسيرًا نسويًا؛ بضرورة إيجاد طريقة لمواجهة الهجوم الذي يظهر في الكتاب المقدس ضد المرأة، وساعدها في ذلك 26 امرأة لوضع تفسيراتهن على النصوص المرتبطة بالمرأة في الكتاب المقدس كله وجاء تحت عنوان «كتاب المرأة المقدس – The woman’s Bible» نُشر عام 1898م.
قالت إليزابيث:
لذا، رفضت قصة خلق حواء، وصرحت بأن الإنسان الأول خُلق ذكرًا وأنثى في جسد واحد، واعتبرت أن الإشارة إلى الضلع الأعوج هي إشارة إلى الجانب الأنثوي الذي تم فصله في ما بعد من هذا الإنسان.
بعدها جاءت «مارجيرت ب. كروك[7]» بكتابها (المرأة والدين) الصادر عام 1964م، والذي دعت فيه لكسر احتكار الرجل لمجال دراسة العهد القديم، وضرورة مشاركة المرأة في تشكيل الفكر الديني ورموزه وتراثه، ورفضت نسب الخطيئة الأولى لحواء فقط، ووصفت آدم بأنه صاحب موقف سلبي وأن حواء هي صاحبة المبادرة الأولى والتي تسعى دائمًا للمعرفة والحرية.
كما ذهبت «ماري دالي[8]» إلى أن النظام الأبوي الذكوري الواضح في الكتاب المقدس هو في حد ذاته دين، وهو الذي أدى إلى الاستبعاد التاريخي للمرأة، وحسب قول دالي: إذا كان الإله ذكرًا، فإن الذكر هو الإله.
على هذا الأساس نُسبت صفات مثل: القوة والحكمة والثبات والثقة والبر إلى الرب، وهى نفس الصفات التي درج التراث على ربطها بالرجل، وفي الوقت الذي نسبت فيه صفات الضعف والجهل والتردد وارتكاب الإثم إلى المرأة[9]، واستخدمت في تفسيراتها صورة الإله الأنثى أو المقدس الأنثوي sacred goddess، كما أنها أحلت مكان «الأب والأبن والروح القدس» بـ«الأم والأبنة والمرأة العجوز»، ورفضت فكرة كون «المسيح أو يسوع» إله تجسد على هيئة شاب ذكر وسيم، وصرحت بأن هذا التجسيد هو فضيحة وثنية لمؤيديه، فاللاهوت النسوي يرفض فكرة التجسد من الخلاص[10].
وبعد ذلك أخذت التجديدات تستمر حتى أسست بعض النساء الأمريكيات اليهوديات جماعة تسمى «نساء الحائط» التي تطالب بحق تلاوة التوراة أمام حائط المبكى، وارتداء شال الصلاة (طاليت) وهو حق مقصور على الرجال فقط في اليهودية، وغيرون لون شال الصلاة من سماوي إلى وردي.
وفي عام 1983م بدأت بعض المعابد اليهودية غير الأرثوذكسية بتعديل الصلوات حتى تتم الإشارة إلى الآباء (باتريارك) وزوجاتهن (ماتريارك)، ولم ينتهِ الأمر عند ذاك الحد فغيرن اسم الإله في التوراة، فأصبح يشار إليه على أنه ذكر وأنثى في الوقت ذاته حتى تتحقق المساواة بين الجنسين، فيقال على سبيل المثال: (إن الخالق هو الذي / هي التي، وضع / وضعت…) ، وأحيانًا يرددن أثناء الصلاة كلمات لا جنس لها مثل: (صديق – Friend )، (Companion – رفيق).
غيّرت تلك التعديلات نصًّا أساسيًّا في التوراة وركنًّا مهمًّا في العقيدة وهي الصلاة وكتبوا هاجاداه[11] لعيد الفصح خصوصًا بالنساء؛ حيث كتبتها الأمريكية «إستير بروند»، والإسرائيلية «نعومي نيمرود»، كما إنهن رَسمن نساء لهن ميل إلى الجنس ذاته حاخامات، وأسسن معابد خاصة بهن، ومراسم زواج أيضًا[12].
كأس مريم
تحتفي الحركات النسوية بما يُعرف بعيد كأس مريم، ويقوم الاحتفال بهذا العيد على الاعتقاد النسوي بأن عيد رأس الشهر جاء احتفاءً بالنساء اليهوديات اللائي رفضن الاشتراك في صنع العجل الذهبي[13]، أي أن هذا العيد نشأ في الأصل كعيد للمرأة ثم حولته اليهودية في ما بعد إلى احتفال لا علاقة له بالمرأة حين جعلت إجراءات الاحتفال به تتم داخل المعبد- فالمرأة لم يكن لها حق الدخول إلى المعبد.
وهذا الأمر جاء بتأثير من شعوب الشرق الأدنى القديم، الذين كانوا يحتفلون بعيد رأس الشهر بسبب عبادتهم للقمر، ونظرًا لأن القمر كما كان يعتقد قديمًا له تأثير على الدورة الشهرية لدى النساء، وبسبب دخول الاحتفال بهذا العيد إلى المعبد فقد صِلته بالأنثى.
ومع سبعينيات القرن الماضي قامت بعض الحركات اليهودية النسوية بإعادة الاحتفال بهذا العيد بخاصة في الولايات المتحدة معتبرين إياه مناسبة مقدسة للنساء، والمقصود بشخصية مريم هنا، ليست مريم- السيدة العذراء- بل مريم أخت سيدنا موسى- عليه السلام- فجاء في سفر «ميخا (6: 4)» «أرسلت أمامكم موسى وهارون ومريم»، فكانت مريم تتلقى التراث المنقول عن الرب وعن موسى وتحوله إلى أشعار وأناشيد يفهمها الشعب بصورة سهلة وبسيطة.
ويجسد هذا العيد نموذجًا لما قامت به الحركات النسوية من إعادة قراءة للتراث من أجل إثبات دور المرأة وأهميتها في التاريخ القديم، ومن أجل إثبات الزعم بأن المجتمع الأبوي والذكوري هو من جار على التراث الأنثوي.
تعليقات
إرسال تعليق