![]() |
صورة مُتخيلة بواسطة الذكاء الاصطناعي، لأحواض المِكفِا اليهودية ثم طقس التعميد في المسيحية |
كتابة وإعداد: منة الله عامر
تُعدّ طقوس الاغتسال والتطهّر بالماء من الطقوس
الأساسية في الديانة اليهودية، وتمارس من خلال ما يُعرف بـأحواض "المِكْفِه"
(بالعبرية: מִקְוֶה)، وهي كلمة تعني في سياقها الأوسع "تجمع المياه"، وتُشير بشكل
خاص إلى حوض مائي يُستخدم للاستحمام التعبّدي بهدف تحقيق النقاء الطقوسي أو الطهارة.
فتعود جذور المِكْفِه إلى التوراة (الأسفار
الخمسة الأولى من العهد القديم)، وتحديدًا في سفر اللاويين،
الجدير بالذكر إنه لم يكن مُرتبطًا في البداية بـ "حوض" مادي محدد بالشكل
الذي نعرفه اليوم، بل كان يُشير إلى تجمع المياه الطبيعية، فكلمة "مِكْفِه"
تعني في اللغة العبرية "تجمع" أو "أمل"، وغالبًا ما كانت تُشير
إلى تجمع للمياه الطبيعية مثل: الينابيع أو مياه الأمطار أو الأنهار والبحار، فالشرط
الأساسي للمياه المستخدمة هو أن تكون "مياه حية" (غير راكدة وغير مجمعة في
أوعية)، وشاع هذا الطقس قبل القرن الأول الميلادي.
![]() |
حوض ميكفِه طبيعي، بجوار الحائط الغربي في القدس، فلسطين |
المِكْفِه قديمًا وحديثًا:
1. المِكْفِه قديمًا:
كانت الحاجة إلى "المِكْفاه" تنبع
من ضرورة التطهّر من "النجاسة الطقوسية" تُسمى في العبرية: (طُمْأَة - Tumah)،
والتي يمكن أن تترتب على أحداث مختلفة مذكورة في الشريعة اليهودية كما وردت في المشنا بالتفصيل،
مثل:
-
المرأة بعد فترة الحيض أو الولادة، وتسمى
حالة المرأة في ذاك الوقت Niddah.
-
التعامل مع جثة ميت.
-
بعض أنواع الإفرازات الجسدية (كسيلان الدم
أو المني).
-
الكاهن قبل ممارسته الخدمة في الهيكل.
فقبل دمار الهيكل في القدس على يد تيتوس
اليوناني، مارس الحاخامات اليهود طقس التطهر في أحواض طبيعة موجودة بجوار الحاط
الغربي للهيكل، قبل البدء بخدمتهم في الهيكل، واستخدمت أيضًا؛ لتطهير الأوعية والأواني
التي يشتريها اليهود من غير اليهود قبل استخدامها في طهي "الطعام الحلال"
(الكوشر).
2. المِكْفه حديثًا:
بعد دمار الهيكل وانتهاء طقس الذبح، قلة أداء
طقوس التطهير من النجاسة الطقوسية، لكن "المِكْفِه" ظلَت مهمة في اليهودية
الأرثوذكسية، وبعض فرق اليهودية المحافظة، وأبرز استخداماتها الحديثة تشمل:
للمرأة: تبقى الحاجة إلى الاغتسال في "المِكْفِه"
بعد انتهاء فترة الحيض وقبل استئناف الحياة الزوجية.
التحول إلى اليهودية: يُعدّ الغطس الكامل في "المِكْفِه"
خطوة نهائية أساسية لإتمام عملية اعتناق الدين اليهودي، سواء للرجال أو النساء المتهوّدات،
كرمز للولادة الروحية الجديدة.
لبعض الرجال: يلتزم بعض اليهود المتدينين (خاصة في طوائف
الحسيديم חסידים) بالغطس في "المِكْفِه" بشكل يومي أو قبل الأعياد، كنوع من
التعزيز الروحي.
![]() |
صورة متخيلة لطقس التعميد قديمًا بواسطة الذكاء الاصطناعي |
التعميد في المسيحية:
يُعتبر طقس التعميد في المسيحية امتدادًا وتطورًا لطقوس الاغتسال
والتطهّر اليهودية، تحديدًا "المِكْفِه"، مع تحوّل جذري في المعنى والغاية:
1. الأصل والامتداد:
مُرس طقس التعميد قبل تأسيس الكنيسة المسيحية،
وخير مثال على ذلك هو يوحنا المعمدان، فكان يُعمّد الناس في نهر الأردن كعلامة
على التوبة وغفران الخطايا، وكان هذا الطقس مألوفًا لليهود الذين كانوا يعمّدون
المهتدين لدينهم.
عندما تَعمد المسيح نفسه من يوحنا، لم يكن ذلك لحاجته إلى تطهير من خطيئة، بل
لتأسيس سرّ المعمودية وإكمال كل برّ، كما في المعتقد المسيحي.
2. التحول في المعنى والغاية:
تحول التعميد من مجرد تطهير طقوسي خارجي "المِكْفِه"
إلى سرّ إيماني عميق ذي دلالة روحية، وخلاصية كما يذكره المعتقد المسيحي.
الموت والقيامة مع المسيح: يُنظر إلى الغطس في الماء والخروج منه على
أنه مشاركة في موت المسيح ودفنه عن حياة الخطيئة، والقيامة معه إلى حياة جديدة في الروح،
كما ورد في رسائل بولس الرسول "دُفِنَّا
مَعَهُ بِالمَعْمُودِيَّةِ لِلمَوْتِ، حَتَّى كَمَا أُقِيمَ المَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ،
هكَذَا نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضًا فِي جِدَّةِ الحَيَاة".
الولادة الجديدة والاتحاد: يُصبح التعميد المدخل إلى المسيحية، ويتم
به غفران الخطايا، وتجديد الطبيعة البشرية، وقبول المؤمن كابن لله، وتُمارس باسم الثالثوث
المقدس، كما يُعتقد في المسيحية.
![]() |
بواسطة الذكاء الاصطناعي |
فشكلت "المِكْفِه" اليهودية أو
احواض التطهر اليهودية، الجسر التاريخي والطقسي الذي عبرت منه فكرة "الاغتسال
الكامل" للوصول إلى النقاء من اليهودية إلى المسيحية، وبينما ظلَّت "المِكْفِه"
في اليهودية رمزًا للنقاء الطقوسي والتحوّل الديني، تحوّلت بعد ذلك في المسيحية إلى
"سرّ المعمودية" الذي يُعد إعلانًا عن إيمان داخلي، وموتًا عن الحياة القديمة
للشخص، ودخوله (قيامته) إلى حياة جديدة مع المسيح، (كقيامة المسيح من جديد).
المصادر العبرية:
-
משנה "المشناه" (Mishnah)، "ميكْفاؤوت" (Mikvaot).
-
שולחן ערוך - (Shulchan Aruch) – لربي يوسف كارو.
-
יוחנן המטביל: המאמין
הנוצרי הראשון، لريكفا نير.
-
משנה תורה، לרמב"ם، משה בן מימון.
(موسى بن ميمون):
وهو تدوين للقانون اليهودي. الجزء الذي يتناول أحكام المِكْفاه (Hilchot Mikvaot) يقدم الشروط
التفصيلية للمياه المستخدمة وكيفية الطقس.
المراجع الإنجليزية:
A
Guide to Jewish Religious Practice" - Isaac Klein.
The
Doctrine of Baptism: Immersions at Qumran and the Baptisms of John, The Earliest Christians.
Jesus
the Jew: A Historian's Reading of the Gospels" - Geza Vermes.
المراجع العربية:
كتاب اللاهوت المقارن"
- البابا شنودة الثالث.
كتاب أسرار الكنيسة السبعة" - حبيب جرجس.
كتاب المعمودية والميرون" - إبراهيم
سدراك.
مواقع على الشبكة العنكبوتية:
-
https://www.sefaria.org/topics/mikveh?tab=notable-sources
تعليقات
إرسال تعليق