إمبراطورية الملك داود العظيمة والأدلة الآثرية



كتب: منة الله عامر

    هل كان حقًا هناك إمبراطورية عظيمة كالتى ورد ذكرها فى العهد القديم تعود إلى عصر داود؟ أم مُجرد خيال من مُحررين العهد القديم لكى يثبتوا أيدلوجية لاهوتية بحتة؟! وإذا صح هذا القول لماذا دَون مُحرر تلك الأسطورة وأكد عليها بهذا الشكل المثير للدهشة؟! وماذا كان رأى علم الآثار فى هذا الشأن ؟ هل ثبت بالأدلة الآثرية وجود تلك الإمبراطورية العظيمة أم لا؟
وقبل البدء فى شرح إشكالية التأريخ لابد لنا أن نؤكد أننا لا يمكن أن نُنكر أن داود عليه السلام نبى أرسله الله لقومه كما ورد فى القرآن الكريم ولكن هنا الهدف الأساسى أن نثبت عدم صحة وجود أمبراطورية عظيمة كما وردت ذكرها فى العهد القديم. 

" مشكلة فى التأريخ "

قديمًا كان يستند التعرف على هوية الآثار الباقية من عصر داود وسليمان على صنفين من الأدلة، حيث تَم ربط إنتهاء الفخاريات الفلسطينية المتميزة ( المؤرخة بسنة 1000 ق.م ) بفتوحات داود، وتَم ربط بناء البوابات والقصور التذكارية فى مجدو وحاصور وجازر بعهد سليمان، ولكن بدأ كلا الدليلين بالتهاوى والسقوط عندما أستخدم الآثريين تقنية الكربون 14 (الكربون الإشعاعى)، وقد تم إختبار عدد من العينات المأخوذة من المواقع الرئيسية المشمولة فى الجدل والنقاش حول القرن العاشر، فترة وجود داود وسليمان فى المنطقة.
أبرز موقع مجدو تناقض فى التفسيرات التى وجدت سابقاً، حيث أُخذت خمس عشر عينة خشبية من الروافد الخشبية لسقف كبير إنهار فى النار والدمار المنسوبين لداود، وأغلب العينات تنطبق بنحو جيد للقرن العاشر ق.م، آى بعد فترة من عهد داود، والقصور التى نسبت إلى سليمان والمبنية فوق طبقتين من ذلك الدمار، يجب أن تكون تابعة لعهد متأخر بوقت طويل عن ذلك العهد.
جوهرياً لقد أخطأ علم الآثار فى تأريخ كلا الآثار " الداودية" و" السليمانية "، بمدة قرن كامل، وبذلك ينفى وجود قصور وبنايات ضخمة ومملكة هائلة بهذا الحجم فى ذلك الوقت، ونستطيع أن نعرف التراث الداودى بأنه لم يتعدى كون المنطقة منطقة ريفية، دون وجود أى أثر لوثائق مكتوبة، أو نقوش، أو حتى دلائل على إنتشار لمعرفة القراءة والكتابة التى لابد منها لعمل حُكم مَلكى حقيقى.
من وجهه نظر ديموغرافية (سكانية- جغرافية ) كانت رقعة التوطن الإسرائيلي بالكاد متجانسة، من الصعب رؤية أى دليل على الثقافة أو نظام مادى موحد أو دولة محكومة مركزياً، ومن ناحية التقديرات السكانية فإنها أيضاً تنطبق على القرن العاشر ق.م، وتعطى فكرة مهمة عن حجم الإمكانيات التاريخية، من بين مجموعة خمسة وأربعون ألف نسمة تقريباً يعيشون فى مناطق المرتفعات كانت حوالى 90 % يعيشون فى القرى الشمالية، وخمسة آلاف شخص فقط متناثرين بين أورشاليم (القدس) وحبرون (الخليل )، وحوالى عشرين قرية صغيرة فى يهوذا بالإضافة إلى مجموعات متنقلة تعمل كرعاة ومثل هذا المجتمع الصغير كان لابد أن يعز ذاكرة زعيم إستثنائي كداود فى =بادئ الأمر فى القرن العاشر لم تمتد قاعدة حكمهم إلى أى إمبراطورية ولا إلى أى مدن واسعة ولا عاصمة رائعة أو مثيرة للإعجاب. 

واستنادًا لما ورد فى سفر الملوك الأول (11- 1:8 ) فأن يوشيا إستطاع أن يعيد بناء المملكة الداودية التى أنهارت فى عهد سليمان، فهو الوريث الشرعى لداود وبدء فى تأسيس حُكم ملكى موحد يربط يهوذا بأراضى المملكة الشمالية السابقة عبر مؤسسات ملكية، وقوات عسكرية وولاء عنيد لمملكة أورشاليم، التى لها مقام مركزى جداً فى قصة داود فى العهد القديم، أى أن كل الحفريات التى وجدت والأبنية والقصور تنتسب لعصر يوشيا وليس داود وسليمان.
إلا أن إفتتان المؤرخ التثنوى فى القرن السابع ق.م، بذكريات داود وسليمان وإستمرار التبجيل اليهوذوى لهاتين الشخصيتين " داود وسليمان "، حيث أستخدم المحرر التثنوى الحُكم الملكى الموحد كأداة قوية سياسية، يوحى بإنه فى عهده (اى عهد ذلك المؤرخ ) قصة داود وسليمان كانت ماتزال حية فى المرتفعات الوسطى ومُعتقدة من قبل الناس على نطاق واسع.

وفى الأوقات الملكية المتأخرة تطور اللاهوت (العقيدة الدينية ) مُتقن فى يهوذا وأورشاليم يهدف لتوثيق وتأكيد الإرتباط بين وريث داود وقدر شعب إسرائيل بأكلمه، ووفقاً للتاريخ التثنوى فأن داود يعتبر المُكمل لأعمال غير المنهية ليشوع، أى فتح بقية الأرض الموعودة وتأسيس الإمبراطورية المجيدة على كل الأراضى الواسعة التى كان قد وعد بها إبراهيم، إذن كانت تلك آمالاً لاهوتية، أكثر من كونها صوراً تاريخية بالمعنى الدقيق للكلمة، وكانت تلك الآمال العنصر المركزى فى تكوين أسطورة داود وخلاص الرب لبنى إسرائيل وتجميع النفوس المتفرقة تحت إسم الدين، كانت الملحمة المجيدة للحكم الملكى المتحد مثلها مثل قصص الآباء وقصص الخروج الجماعى (من مصر) وقصص غزو كنعان تأليفاً رائعاً من نسج حكايات وأساطير بطولية قديمة أدمجت مع نبؤات متماسكة ومُقنعة لشعب إسرائيل فى القرن السابع ق.م، أى أن المؤلف التثنوى إستخدم حكايات الملك داود وجعل منها خلاصاً لشعبه المهزوم وهكذا جعل من داود الأسطورة التاريخية إلى حدث لاهوتي مهم، استندت إليه الحركات الصهيونية الدينية منها والعلمانية لدخول أرض فلسطين تحت مسمى " الأرض الموعودة ".



تعليقات

المشاركات الشائعة