" تاريخ فلسطين فى روايات العهد القديم "

          





كتب: منة الله عامر.

    مَنْ يقرأ العهد القديم سيلاحظ أن معظم القصص التى تَروى تاريخ السكان الأصلين لأرض كنعان تَمْ التَعتيم عليها وصمتت الروايات التوراتية عن ذكر ماذا حَل بهم وما مصيرهم بعد أن رَحلهم سنحاريب " السبى الآشورى "،على الرغم من أن الوقائع تدل إنهم قد عادوا إلى حياتهم الطبيعية فى بلداتهم وقُراهم بعد إنتهاء الحروب، لقد عَتم التاريخ على أولئكَ السكان؛ لأن المؤرخين المعاصرين قد مشوا فى ركاب الصمت التوراتى وفكرة " القبائل المفقودة " ، " الأرض الخالية ".

" التعتيم على التاريخ الفلسطينى "
        نظراً إلى أن القصة التوراتية عن دمار السامرة ويهوذا قد دونت فى وقت متأخر ومن خلال منظور كهنة أورشاليم، فإن هذا المنظور يتطلب منا الدراسة والفهم. وفى الحقيقة فإن مؤلفى الأسفار التوراتية المتأخرين فى أورشليم لم يقيموا وزناً للسامرة أو إسرائيل بإعتبارها جزءاً فعالاً من الإمبراطورية الآشورية.
ومِنْ هنا بدء التعتيم على سكان تلك المنطقة فى روايات العهد القديم ولكن آخذ هذا التعتيم بالتلاشى بفضل المعلومات الأركيولوجية والنصية الجديدة التى تسمح لنا اليوم بكتابة تاريخ عنهم بصفة محدودة.
 وصف الباحث " كيث وايتلام " هذا ب " التعتيم على التاريخ الفلسطينى " وأن هذا التعتيم يبدأ بقصة العهد القديم نفسه مبرراً الخطأ الذى وقع فيه كُتاب العهد القديم فالوقت الذى عاش فيه المؤلف التوراتى وشرع فى روايته عن دمار أورشاليم فى ماض بعيد عنه، كان ذلك الماضى قد باد تقريباً ولقد تجاهل المؤلف التوراتى الإستمرارية فى تاريخ السامرة، مثلما تجاهل لغتها وتقاليدها وذكريتها التى حافظت عليها لعدة قرون تلت فقدانها لإستقلالها السياسى، فمثل هذه الإستمرارية لم تكن مناسبة لدور الذى أعطاه للسامرة فى قصته، فى كتاب العهد القديم كل خطوط الإستمرارية تتجه من المستقبل لتقود إلى الماضى، إلي إسرائيل القديمة كفكرة وحيدة فى دراما لاهوتية مركزها " أورشاليم ". وكان من الضرورى لتوازن هذه الرواية أن تجعل السامرة وشعبها نموذجاً للعقاب الإلهى وعظة لأورشاليم وتذكرة بما تنتظرها إذا سارت على طريقها، لقد أعطيت السامرة الدور التراجيدى للمرأة " راحيل " التى تبكى أولادها الذين قضوا كما ورد فى سفر " أشعياء 37- 39 ".

" سفر إشعياء "
أما مؤلف سفر إشعيا الذى كان يكتب قصة أورشاليم فى الزمن الفارسى المتأخر أو الهيلينستى المُبكر، فقد صور أورشاليم كنموذج للتقوى فهى " البقية التائبة  " التى تعلمت من دروس الماضى وممتلئة بالبر الذي سيغير المستقبل وهذا ما تؤديه القصة البطولية لأورشاليم فى عصر الملك حزقيا فى أواخر القرن الثامن ق.م، وعندما واجهت البقية الهشة من ذلك الماضى العظيم القوة المتعجرفة لجيش سنحاريب الآشورى بدموع التضرع والثقة بيهوه، تنتهى القصة بأن الرب قضى على جيش سنحاريب وعاد إلى بلاده.
إستحوذ على مؤلف سفر إشعيا قصص ملوك إسرائيل، لقد دمرت سامرة الآن والقصة تلتف لربط مصير أورشليم بالسامرة إن الراوى يُذكر قارئه بإنه لا السامرة ولا أورشليم تعنيان شيئاً عند الرب. المؤلف هنا يحاول إظهار أن السبى ينطوى على الرحمة الإلهية والبقية الناجية من الآسر سترجع وقد وفت دينها، لأن قدرها أن تغدو إسرائيل الجديدة المؤمنة.
وبعد أن سبى نبوخذ نصر يهوذا، قد هرب ولجأ إلى مصر فأورشليم المجد الغابر لم تعد موجودة فى هذه القصة، هنالك فقط بقية من يهوذا تقييم فى الأسر مع ملكها فى بابل والستارة قد أنزلت على الماضى، هذه المدينة خالية " أورشاليم " وتردد صدى رؤيا إرميا لأورشاليم الجاهلة المُقيمة فى خواء ماقبل التكوين : "نظرت إلى الأرض وإذا هي خربة وخالية، وإلى السماوات فلا نور لها، نظرت إلى الجبال وإذا هي ترتجف، وكل الآكام تقلقلت، نظرت وإذا لا إنسان ، وكل طيور السماء هربت، نظرت وإذا البستان برية، وكل مدنها نقضت من وجه الرب، من وجه حمو غضبه" سفر إرميا " الإصحاح 4 " فقرات (23-26 ).

إن التعتيم على تاريخ السامرة عقب عام 722 ق.م، وعلى تاريخ أورشاليم عقب عام 587 ق.م لصالح إضفاء التاريخانية على الرواية التوراتية، قد جَر الكتابة التاريخية الحديثة والمعاصرة إلى التعتيم على تاريخ الأقاليم الفلسطينية الآخرى وخصوصاً منطقة الجليل والساحل وشرقى الأردن.
لقد ضللت القصة التوراتية المؤرخين، ودفعتهم فى إتجاه إعادة بناء البدايات إنطلاقاً من إعادة تشييد أورشاليم، وذلك قاد إلى تشويش الدراسات الكتابية ودفعها للإعتقاد بأن ما يتحدث عنه النص التوراتى بخصوص أورشاليم " ما بعد السبى " وأورشاليم الجديدة هي واقعة تاريخية وليس خطاباً لاهوتياً.

 
ويبقى السؤال هل من الممكن كتابة تاريخ لفلسطين قديماً؟
    ونرجع إلى تاريخ فلسطين فى العصر الحديدى وماذا كان وضعها آنذاك، فى الواقع أكد الكثير من الباحثين أنه من الصعب كتابة تاريخ لفلسطين فى العصر الحديدى طالما منظورنا التاريخى واقع فى إطار الكتاب المقدس بإعتباره تاريخاً وليس كتاباً لاهوتياً، هناك أمل فى كتابة تاريخ لفلسطين إذا بدأنا فى التوفيق العمل على إستقلالية علم التاريخ وعلم الآثار، علينا اولاً أن نتعلم قراءة شفيرة النص المقدس لكى نفهم ما قدمه من أجل تحويل الماضى عندما كان يكتب هو من أجل أهداف آخرى غير الهدف التاريخى الذى نبحث نحن عنه، والهدف هنا هو مقاربة تاريخ فلسطين بإعتباره تمهيداً أو حتى تسويغاً لفهم وتوظيف فكرة الحرب والأقتلاع السكانى فى العهد القديم لأغراض سياسية حديثة، بدلاً من فهمها فى سياقاتها الأصلية كمجازات لاهوتية وذلك أدى إلى نتائج مؤسفة سواء بالنسبة إلى المجتمع أو بالنسبة إلى فهمنا للنص المقدس، وهذا الموضوع يطول شرحه ويحتاج إلى الكثير من المجهودات لكى نكتب تاريخ فلسطين القديم دون الرجوع إلى روايات العهد القديم لاهويتة.








تعليقات

المشاركات الشائعة