جبريل في المرويات اليهودية والتراث الإسلامي ד

 

كتب: منة الله عامر

   أعلم إنني أطلت عليكم، في المرات السابقة، وإنني نجحت في مداعبة عقولكم لمعرفة المزيد عن هذا الموضوع الشيق، لن أستطع أن أقول لكم، أن مجرد القراءة والبحث واستخلاص المعلومات في هذا الموضوع وغيره، من أمتع الوقات التي أقضيها، لذلك كل ما أعرضه عليكم، هو نتاج فعل حُب وشغف المعرفة، فاعذروني على أى صعوبة واجهتكم في القراءة، وأعدكم بإن هذه المرة ستكون أبسط وأمتع لكم. فهيا بنا نركب قطار الزمن للوراء، ونُكمل معًا الرحلة التي بدأنها في ثلاث مقالات سابقين لهذا الأخير.

فقد حان الوقت لنعرف ما دلالة أسماء الملائكة، وهل هناك ملائكة أخرين، لهم أسماء واضحة مثل الملكين: "جبرئيل، وميخائيل"، في هذه الرحلة؛ سنجيب معًا على كل ما جال في أذهانكم. -بإذن الله-.


 

دلالة أسماء الملائكة:

    ورد في تفسير سفر العدد  في المدراشيم "بمدبار رابا"، الجزء الثاني الفقرة التاسعة، (العدد 2\3)، "والنازلون إلى الشرق نحو الشروق، راية محلة يهودا إلى آخره"، وكما ورد في سفر الأمثال "الرب بالحكمة أسس الرب" (3\19).

هنا يأتي مايلي، خلق القدوس تبارك -أي الرب- الاتجاهات الأربعة الشرق والغرب والشمال والجنوب، وكما خلق القدوس أربعة اتجاهات للعالم كذلك أحاط عرشه بأربعة مخلوقات ومن فوقها كرسي العرش، والأربعة مخلوقات هم أربعة ملائكة: ميخائيل وجبريئيل وأوريئيل ورفائيل.

فما معنى كل اسم من أسماء الملائكة، ويجدر الاشارة إلى أن كل اسم من الاسماء الأربعة مُلحق به اسم الرب "אל" بالعبرية معناه الرب.

فكان دلالة اسم "ميخائيل": مَنْ مثلك يارب؟ أي لا مثيل للرب.

أما أوريئيل: دلالته أن الرب نوري.

جبريئيل: دلالته الرب قوتي.

رفائيل: دلالته اللهم اشف.  

إذا فهناك أربعة ملائكة من المقربين للرب، المحاطين حول عرشه.

 

يأتي السؤال، هل قيل في ميخائيل أكثر مما قيل في جبريئيل؟

جاءت الإجابة على هذا السؤال في الجمارا، كتاب "قداشيم" أي المقدسات، باب براخوت أي البركات الفصل الأول 4\ب:

    فقال الرابي "إلعازر براأبينا جادول" أن ما قيل في ميخائيل أكثر مما قيل في جبرئيل فبينما قيل عن ميخائيل في (إشعياء 6\6)، "وطار نحوي أحد السرافيم"، فقد قيل عن جبريئيل في دانيال (9\21)، "والرجل جبريئيل الذي رأيته أول مرة في الرؤيا مطير طيرانا إلى آخره"، فماذا أراد أن يُطلعنا عليه من هذا، واحد هو ميخائيل، قال: رابي يوحنان "جاء أحد" لقد نص على أحد هنا، أي في إشعياء"طار نحوي أحد السرافيم"، وورد في دانيال (10\13)"فها هو ميخائيل أحد الرؤساء الأول جاء ليساعدني"، فعلم أن ميخائيل بواحدة وجبريئيل بإثنتين وإلياهو بأربع وملك الموت بثمانية وعند القضاء بواحدة. ولكي لا أطيل عليكم في التفسيرات الكثيرة، أتفقت الجمارا أن ما يُقصد به "أحد"، هو ميخائيل، وفسر البعض الرقم אחד على إنه جاء بطيرة واحدة دون أن يتوقف خلالها، وفسرت الجمارا ما جاء في سفر دانيال "מועף ביעף" أي مطير طيرانا بأن المقصود به أنه جاء بطيرتين، وبناءً على هذا قال الربي إلعازر، بإن ما قيل في ميخائيل أكثر مما قيل في جبرئيل، ولكن هذا غير صحيح.

     فظهر شخص جبرئيل -عليه السلام- في حكاية أدم في سفر التكوين، وحكاية إبراهيم ولوط، وحكاية يوسف -عليه السلام-، وموسى عليه السلام أيضًا، وحكاية يهوذا وثامارا، ودور جبريل في محاربة سنحاريب ملك آشور، وكان لجبريل دورعند زواج من أبنة فرعون، وما حدث من شقاق بي الملك أحشويرش والملكة وشتي، وأيضًا دوره مع استير وموردخاي، ووصفه دانيال بإنه الرجل الذي يلبس الكتان، كل تلك الحكايات الموجودة في العهد القديم، تؤكد دور جبريل القوي على امتداد عصور بني إسرائيل، وربما نسرد الحكايات بالتفصيل في مقالات لاحقة. 

 


وأخيرًا، كيف أصبح جبريل -عليه السلام- عدوًا لليهود، رغم دوره القوي ومقربته من الرب، والأنبياء أيضًا؟ أم أن عبد الله بن سلام -كذب على النبي- صل الله عليه وسلم؟

وللإجابة على ذلك نستعين بما جاء في تفسير الإمام الفخر الرازي للآية:" قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ..." سورة البقرة الآية 97.

  قال في تفسير الآية الكريمة: من الناس من استبعد أن يقول قوم من اليهود، إن جبريل عدوهم قالوا لأنا نرى اليهود في زماننا هذا مطبقين على إنكار ذلك مصرين على أن أحدًا من سلفهم لم يقل ذلك، وأعلم أن هذا باطل؛ لأن حكاية الله أصدق.

أي أن اليهود منذ زمن الإمام الفخر الرازي (القرن الثالث عشر الميلادي) تصر على تكذيب عبد الله بن سلام، وهذا ما يردده المستشرقون وبعض الكتاب المتأخرين الذين تأثروا بكلامهم، ولكن قوله تعالى: "قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ"، أصدق فلقد أجمعت الروايات الإسلامية أو كما يقول الطبري" "أجمع أهل العلم بالتأويل جميعًا على أن هذه الآية نزلت جوابًا لليهود من بني إسرائيل، إذا زعموا أن حبريل عدو لهم، وأن ميكائيل (أي ميخائيل) ولىَّ لهم، ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك، فقال بعضهم إنما كان سبب قولهم ذلك في مناظرة جرت بينهم وبين رسول الله صل الله عليه وسلم، في أمر نبوءته، ذَكر من قال ذلك:

   "حضَرَتْ عِصابةٌ مِنَ اليهودِ نبيَّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومًا، فقالوا: يا أبا القاسمِ، حدِّثْنا عن خِلالٍ نَسألُكَ عنهُنَّ، لا يَعلَمُهُنَّ إلَّا نبيٌّ. قال: سَلوني عمَّا شِئْتُم، ولكنِ اجعَلوا لي ذمَّةَ اللهِ وما أَخَذ يعقوبُ عليه السَّلامُ على بَنيهِ، لَئِنْ حدَّثْتُكْم شيئًا فعَرَفْتُموه لَتُتابِعُنِّي على الإسلامِ. قالوا: فذلكَ لكَ. قال: فسَلوني عمَّا شِئْتُم. قالوا: أَخبِرْنا عن أربعِ خِلالٍ نَسألُكَ عنهُنَّ: أَخبِرْنا أيَّ الطَّعامِ حرَّمَ إسرائيلُ على نفْسِه مِن قَبْل أنْ تُنزَّلَ التَّوراةُ؟ وأَخبِرْنا كيف ماءُ المرأةِ وماءُ الرَّجُلِ، كيف يكون الذَّكَرُ منه؟ وأَخبِرْنا كيف هذا النَّبيُّ الأُمِّيُّ في النَّومِ؟ ومَن وليُّهُ مِنَ الملائكةِ؟ قال: فعليكُم عهدُ اللهِ وميثاقُه لَئِنْ أنا أَخبَرْتُكُم لتُتابِعُنِّي. قال: فأَعطَوه ما شاءَ مِن عَهدٍ ومِيثاقٍ. قال: فأَنشُدُكُم بالَّذي أَنزَلَ التَّوراةَ على موسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، هل تَعلَمون أنَّ إسرائيلَ يعقوبَ عليه السَّلامُ مرِضَ مرَضًا شديدًا وطال سَقَمُه، فنَذَرَ للهِ نذْرًا، لَئِنْ شفاهُ اللهُ تعالى مِن سَقَمِه ليُحَرِّمَنَّ أَحَبَّ الشَّرابِ إليه، وأَحَبَّ الطَّعامِ إليه، وكان أَحَبُّ الطَّعامِ إليه لُحمانَ الإبلِ، وأَحَبُّ الشَّرابِ إليه ألبانُها؟ قالوا: اللَّهمَّ نعَم. قال: اللَّهمَّ اشهَدْ عليهِم. فأَنشُدُكُم باللهِ الَّذي لا إلهَ إلَّا هو الَّذي أَنزَلَ التَّوراةَ على موسى، هل تَعلَمون أنَّ ماءَ الرَّجُلِ أبيضُ غليظٌ، وأنَّ ماءَ المرأةِ أصفرُ رقيقٌ؛ فأيُّهُما عَلَا كان له الولدُ والشَّبَهُ بإذنِ اللهِ، إنْ عَلَا ماءُ الرَّجُلِ على ماءِ المرأةِ كان ذَكَرًا بإذنِ اللهِ، وإنْ عَلَا ماءُ المرأةِ على ماءِ الرَّجُلِ كان أنثى بإذنِ اللهِ؟ قالوا: اللَّهمَّ نعَم. قال: اللَّهمَّ اشهَدْ عليهِم. فأَنشُدُكُم بالَّذي أَنزَلَ التَّوراةَ على موسى، هل تَعلَمون أنَّ هذا النَّبيَّ الأُمِّيَّ تنامُ عَيناهُ ولا ينامُ قلْبُه؟ قالوا: اللَّهمَّ نعَم. قال: اللَّهمَّ اشهَدْ. قالوا: وأنتَ الآنَ فحدِّثْنا، مَن وليُّكَ مِنَ الملائكةِ؛ فعِندَها نُجامعُكَ أو نُفارِقُكَ؟ قال: فإنَّ وليِّي جبريلُ عليه السَّلامُ، ولمْ يَبعثِ اللهُ نبيًّا قطُّ إلَّا وهو وليُّه. قالوا: فعِندَها نُفارِقُكَ، لو كان وليُّكَ سِواهُ مِنَ الملائكةِ لتابَعْناكَ وصدَّقْناكَ! قال: فما يَمنَعُكُم أنْ تُصَدِّقوه؟ قالوا: إنَّه عدوُّنا! قال: فعِندَ ذلكَ قال اللهُ عزَّ وجلَّ: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 97]، إلى قولِه عزَّ وجلَّ: {كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 101]، فعِندَ ذلكَ {بَاؤُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} البقرة: 90".

الراوي: عبدالله بن عباس | المحدث: أحمد شاكر | المصدر: مسند أحمد

الصفحة أو الرقم: 4/176 | خلاصة حكم المحدث: اسناده صحيح

التخريج: أخرجه أحمد (2514) واللفظ له، والطيالسي (2854)، والطبراني (12/246) .(13012(

   وتُبين لنا من تلك المناظرة التي جرت بين اليهود وبين الرسول صل الله عليه وسلم، أن اليهود علقوا دخولهم ومتابعتهم الرسول على شخصية الملك الذي ياتيه بالوحي، بعد أن أجاب الرسول على أسئلتهم وتأكدوا من بنوته، فلما أخبرهم الرسول بأنه جبريل، تذرعوا بحجة   واهية قائلين: إن ما يمنعهم من متابعة الرسول هو كون جبريل وليه، فجبريل عدوهم، فالعداء لجبريل طرأ في اللحظة التي أعلن فيها الرسول -صل الله عليه وسلم-، أن جبريل وليه من الملائكة، وادعوا إن هذا هو السبب الذي يمنعهم من متابعة الرسول -صل الله عليه وسلم-، وكأن جبريل يفعل ذلك عن أمره لذلك رد عليهم بقوله: "قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ" سورة البقرة الآية 97، مُشعر بأن هذا التنزيل لا ينبغي أن يكون سببًا للعداوة، لأنه إنما فعل ذلك بأمر الله.

وفي قصة إسلام "عبد الله بن سلام"، كما ذكرها البخاري في صحيحه دليل آخر، يفضح كذب اليهود ويظهر أن اليهود يكنون للإسلام كراهية شديدة ويناصبوته للعداء، وأن تلك الكراهية هذا العداء ينتقل ويصيب على الفور كل من يعلن أنه له صلة بالدين: "أن النبي مدة مقامه في دار الصحابي الجليل، أبي أيوب الأنصار، قدم عليه أحد أحبار اليهود وعلمائهم، وهو: عبد الله بن سلام، وكان يعلم من كُتبهم أوصاف النبي المبعوث في آخر الزمان فما جاء إلى النبي سأله بعض الأسئلة، تأكد منها أنه نبي؛ لأنه ما يعلمها إلا نبي مرسل، فأسلم، وثال للرسول، لا تُعلن إسلامي حتى تسأل اليهود عني؛ لأنهم إن علموا إسلامي فسينقصونني، فأرسل إليهم النبي، وسألهم عنه، فقالوا:"سيدنا ابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، فلما أخبرهم بإسلامه، قالوا: شرنا وابن شرنا، وتنقصوه، قال: هذا ما كنت أخاف يا رسول الله".

نرى كيف تحول رأيهم عنه، عندما علموا بإنه أسلم، وهكذا كانت عداوة اليهود لجبريل طارئة، فقد تحولت صورة جبريل الإيجابية في التراث اليهودي، إلى صورة سلبية في اللحظة التي أعلن فيها الرسول أن جبريل وليه من الملائكة، مثلما تحول عبد الله بن سلام من سيدهم وأعلمهم إلى شرهم بمجرد أن علموا بإسلامه، فالعداوة ليست لجبريل في شخصه، إنما للإسلام ذاته ونبيه محمد -صل الله عليه وسلم-. 

       وبهذا نكون قد وصلنا لنهاية الرحلة، وأرجو أن أكون قد أضفت لكم، معلومة جديدة، 
لكم مني المزيد من الدعوات بالعلم والمعرفة.

مصادر والمراجع:

القرآن الكريم.

العهد القديم.

المدراشيم.

بحث "كيف أصبح جبريل عليه السلام عدوًا لليهود؟ "دراسة في توالد التفاسير والمرويات اليهودية. لدكتور ليلى أبو المجد (وهو نواة المقال).

حول تاريخ بني إسرائيل، م.ص.سيجل.

الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير، محمد محمد أبو شهبه.

جامع البيان عن تأويل آى القرأن، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري.

صحيح البخاري وبهامشه حاشية السندي من شرح القسطلاني وشيخ الإسلام، البخاري.

الإمام الفخر، الرازي.

الملل والنحل، الشهرستاني.

تعليقات

المشاركات الشائعة