دين الإنسان ב

 

 كتب: منة الله عامر

     ربما تسألت ذات يوم هل البيئة المحيطة ببعض الأشخاص تؤثر في طبيعة ما يقومون بعبادته، ولماذا مجموعة بعينها تعبد النار -على سبيل المثال- أو البقرة في مكانٍ أخر!، هذا ما سنحاول معرفة جذوره وبدايته، فتوقفت رحلتنا السابقة عند تعريف الدين لدى العلماء المسلمين، ووعدتكم إننا سنكمل الرحلة بداية بتعريف علماء الغرب للدين، لهذا اشحذوا حواسكم جيدًا، وهيا بنا نكمل رحلتنا الشيقة؛ حيث أن بعضكم سيرها شيقة والبعض الأخر سيرها مملة، ولكن فكلا الحالتين سأكون ممتنة لاصطحابكم معي ... هيا بنا...



الدين اصطلاحًا عند علماء الغرب:

صارت دراسة الأديان علمًا مستقلًا بذاته، أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وأهتم علماء الغرب بدراسة الدين كل من رؤية محددة، وقد اختلفت آراء علماء الغرب وتباينت بصورة كبيرة في وضع تعريف اصطلاحي، وهذا الاختلاف يرجع إلى الخلفية الفكرية والأيدلوجية لهؤلاء العلماء والباحثين، ونظرًا لأن دراسة الدين في الغرب اهتم بها الأنثروبولوجي واللاهوتي والفلسفي ولنفسي والاجتماعي، فصار من الصعب وضع تعريف اصطلاحي محدد للدين، لذلك سنحاول أن نعرض هنا أبرز تعريفات علماء الغرب في مختلف التخصصات لمفهوم الدين، هيا بنا...

 

*التعريف الأنثروبولوجي:

أهتم علماء الأنثروبولوجي ببحث الدين وعلاقته بالمجتمعات البشرية، وكان من أوائل العلماء الذين اهتموا بتعريف الدين، هو ماكس موللر[1] وإدوارد تايلور[2]، وجيمس فريزر[3].

 انطلق ماكس موللر في تعريفه للدين من فكرة فوق الطبيعي أي ما يتجاوز حدود المعارف الإنسانية ويقع في نطاق السر والمجهول؛ فيعرف الدين في كتابيه "نشأة الدين ونموه"، و"مدخل إلى علم الدين"، بإنه محاولة تصور ما لا يمكن تصوره، وقول ما لا يمكن التعبير عنه، والتطلع إلى الله باعتباره الكمال المطلق، ولكن يؤخذ على هذا التعريف إنه يقتصر على الأديان القائمة على الوحي، ويستبعد هذا التعريف الديانات التي تقوم على عبادة قوى الطبيعة، والديانات الطوطمية، والديانات الفلسفية مثل: البوذية والكنفوشوسية. 

أما إداورد تايلور طبقًا لنظريته فإن تعريف الدين كما ورد في كتابه "الثقافة البدائية"، يدور حول الاعتقاد بوجود أرواح، ويشكل الإيمان بالموجودات الروحية، الحد الأدنى للدين، ويقصد تايلور بالكائنات الروحية أنها كائنات واعية تمتلك قوى وخصائص تفوق لدى البشر، أنها كائنات واعية تمتلك قوى وخصائص تفوق ما لدى البشر، وأنها تشمل كل أنواع الأرواح والعفاريت والجن، كما يدخل في عدادها أيضًا الآلهة بالمعنى المعتاد للكلمة. ومن النقد الذي يوجه إلى هذين التعريفين، رغم اختلاف رؤيته؛ إنهما لا يمكن انطباقهما على أديان عدة [4]. ولقد كانت دراسة تايلور خطوة هامة في علم دراسة الدين، وتفوقت الرؤية الروحية في دراسة الدين على المذهب الطبيعي.

ولذلك فإن جيمس فريزر في كتابه الغصن الذهبي يرى أنه من الصعب وضع أو صياغة تعريف واحد يرضي كل الآراء ومن الأفضل -طبقًا لرأيه- أن يحدد الباحث بدقة ما يعنيه بكلمة دين ويعمل على استعمال هذه الكلمة عبر مؤلفه بالمعنى الذي حدده من البداية، لذلك يعرف فريزر الدين "بإنه يقوم على فكرة الاعتقاد بوجود قوى غيبية غير مشخصة، وأنها -أي تلك القوة- تتحكم بالطبيعة والحياة الإنسانية"، ومعنى ذلك أن هناك اعتقاد بقوى عليا يتبعه محاولة إرضاء هذه القوى، ويؤكد أن الدين لا يصح إلا بهذين العنصرين، فالاعتقاد الذي لا يتبعه ممارسة ليس سوى لاهوت فكري، والممارسة المجردة عن أي اعتقاد ليست من الدين.

 *التعريف اللاهوتي:

يتنوع تعريف اللاهوتيين بتنوع المذهب، ويرتبط كذلك أيضًا بالخلفية الثقافية والفكرية للاهوتي، ولا يوجد اتفاق بين اللاهوتيين على تحديد المقصود بالدين، فيعرف اللاهوتي الألماني "شلاير ماخر" (1768 – 1834) الدين بأنه شعور باللانهائي واختبار له"، ويقصد باللانهائي هناوحدة وتكامل العالم المدرك. وهذه الوحدة لا تواجه الحواس كموضوع، وإنما تنبئ عن نفسها للمشاعر الداخلية، وعندما تنتقل هذه المشاعر إلى حيز التنفيذ فإنها تخلف في الذهن فكرة "الله" -الرب، وأن الخيال الفردي هو الذي يسير بفكرة الله، إما نحو المفارقة والتوحيد أو نحو نوع غير مشخص للإلوهية يتسم بوحدة الوجود. وهذا التعريف يجمع بين التحليل النفسي والتأمل الفلسفي، وأن فكرة الله عند الإنسان هى نتاج المشاعر الداخلية والتأملات العقلية التي توصل الإنسان إماإلى التوحيد أو وحدة الوجود.

ربما يكون منطق شلاير ماخر، منطلقًا دينيًا يدافع به عن الدين خوفًا من تفويض المبادئ الكنيسة، ويبدو ذلك بصورة أوضح في كتابه "مقالات عن الديانات"، المقالة الثانية؛ حيث يؤكد أن "قوام حقيقة الدين شعورنا بالحاجة والتبعية المطلقة"، أي أنه ثم وجود وعي بالقدسي مغروس في النفس البشرية، طبقًا لرأي شلاير ماخر.

وهذا ما دعا اللاهوتي الألماني ردولف أوتو (1869 – 1937)، أن يشير بأنه لا جدوى من المقتربات العقلانية لدراسة الدين ثم يعرف الدين:"بإنه جزء لا يتجزأ من الطبيعة البشرية، وموجود معها منذ البداية"، أي أن التكوين السيكولوجي الذي يجعل الدين ممكنًا عند الإنسان ثابت لا يتغير، فإن التعبيرات الظاهرية عن الدين عرضة لتغيير والتبديل مع الزمن. وما يؤخذ على اللاهوتيين في محاولتهم استخدام معطيات العلم لترسيخ التعاليم الكنسية حول الوحي الإلهي، وهذا الاتجاه يبدو بصورة أكثر وضوحًا لدى الأب الكاثوليكي "فيلهلم شميدت" وذلك من خلال تأكيده أن نماذج الموجودات السماوية في معتقدات الشعوب المختلفة؛ ما هي إلا بقايا الإيمان السحيق في القدم في إله خالق واحد والذي بعد ذلك تأثر بالأساطير والعناصر السحرية وما شابها. ونفهم من تعريف شميدت أن الأصل في الدين هو التوحيد أي أن فطرة الإنسان هى النزوع إلى التوحيد، والتوحيد عنده نوع من الإدراك المباشر للحقيقة المقدسة من الممكن أن يكون بوحي مباشر من الله عن طبيعته. وبصورة أوضح فإن اللاهوتيين لا يبحثون عن المعرفة، بل ما وراء المعرفة من أجل مصالح دينية، وعلاوة على ذلك فإن اللاهوتيين يعتمدون على طبيعة الدين كما تم إقراره في العقيدة.

*التعريف النفسي

ظهر في أوائل القرن العشرين اتجاه بيولوجي في دراسة الدين، وقد ارتبط هذا الاتجاه بعالم النفس النمساوي "سيجموند فرويد"، الذي حاول تطبيق الطريقة النفسية لتشخيص ومعالجة المرضى النفسيين والعصبيين على الدين والثقافة. حاول فرويد في كتاب الطوطم والتابو عام 1913 بإثبات كيف ان المعتقدات الدينية تتبدى من قبل المصابيين بالأمراض العصبية التي يكون أساسها ضغط النوازغ الشهوانية في الطفولة. أشار فرويد إلى أن الأفكار الدينية "معتقدات وتوكيدات تتعلق بوقائع العالم الخارجي أو الداخلي وعلاقاته. وهذه المعتقدات تعلمنا أشياء لم نكتشفها بأنفسنا وتتطلب من جانبا فعل الإيمان". وما يؤخذ هنا عل تعريف فرويد عدم إمكانية فهم التغييرات المنوعة والتاريخية للاعتقادات الدينية، كما يقدم لنا أي أحكام قيمية للدين، أو أصل الأديان وتاريخها ومستقبلها طبقًا للرؤية الفرويدية. وبصورة عامة فإن فرويد لم يقدم تعريفيًا واضحًا للدين، وتعامل مع عناصر ثانوية من الظاهرة الدينية، كما أنه لم يميز بين الدين والتشريع فيرجع ظهور الدين إلى بدايات ظهور التشريع، بمعنى أنه مع ظهور أول تشريع سنه البشر ابتدأ الدين. ورغم ما أثير حول عدم أهلية مذهب فرويد غير أن هناك مجموعة من الباحثين النفسيين يحاولون التعمق في فهم وتحليل اللاشعور وميكانيزماتيته، ومن هؤلاء أتورانك، ج. ألبورت، ل.و.جرينستيد، ب.جونسون، ودراسات هؤلاء الباحثين بمثابة تطبيقات لنظريات فرويد ويونج عن الدين.

*التعريف الفلسفي

تتنوع المذاهب الفلسفية تنوعًا كبيرًا، وأدى ذلك إلى تعدد الفلاسفة للدين، ولا نستطيع هنا أن نحصى أو نقدم كل تعريفات الفلاسفة للدين، بل نشير إلى أهم وأبرز تعريفات الفلاسفة للدين. ونختار من هذه التعريفات تعريف الفيلسوف الإلماني "كانت"[5]، الذي يعرف الدين "بأنه الشعور بواجباتنا من حيث كونها قائمة على أوامر إلهية سامية"، وأما "هيجل" فيعرف الدين بقوله: "الدين هو ارتفاع الروح من المتناهي إلى اللامتناهي"، "أن الدين هو معرفة الروح الإلهي لنفسه عن طريق الروح المتناهي، ويتعين الله في الدين بوصفه ما بعد المتناهي". أما "هربرت سبنسر" الفيلسوف البريطاني فيقول:"إن العنصر الأساسي في الدين هو الإيمان بالقدرة اللانهائية، أي التي لا يمكن تصور نهايتها الزمانية أو المكانية"، ويرى"أن الأديان على قدر اختلافها في عقائدها المعلنة تتفق ضمنيًا في إيمانها بأن وجود الكون هو سر يتطلب التفسير".

ومن النقد الموجه إلى مقل هذه التعريفات الفلسفية غلبة النزعة الفلسفية التأملية المجردة، كما أن التعريفات تنطبق على الديانات المستمدة من وحي سماوي، وبذلك يستبعد منها الأديان القائمة على عبادة عناصر الطبيعة والديانات الطوطمية وما شابه ذلك.

*التعريف الإجتماعي

برزت في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين المدرسة الفرنسية الاجتماعية وكان رائدها "إميل دوركايم"[6]، يعد "دوركايم" أول من قال أن الدين "ظاهرة إجتماعية" وذلك في كتابه "أشكال الحياة الدينية الأولى"، كما قدم دور كايم في هذا الكتاب نقدًا للتعريفات التي تقتصر الدين على الممارسات التي تتضمن توسلًا لكائنات ماورائية تسمو على الإنسان، سواء أكانت هذه الكائنات أرواح أو آلهة ن أى نوع؛ كما انتقد في الوقت ذاته أصحاب المذهبين الطبيعي والروحي في أصل الدين.

رأى دوركايم أن من الضروري البحث عما هو مشترك بين الأديان المعروفة واستبعاد الأفكار والمعتقدات التي يختص بها دين دون آخر، وبناءًا على ذلك يقدم تعريف التالي:"الدين هو نظام متسق من المعتقدات والممارسات التي تدور حول موضوعات مقدسة يجري عزلها عن الوسط الدنيوي وتحاط بشتى انواع التحريم، وهذه المعتقدات والممارسات تجمع كل المؤمنين والعاملين بها في جماعة معنوية واحدة تدعى الكنيسة". وقسم "دوركايم" الدين إلى قسمين أساسين: المعتقدات والممارسات، والمعتقدات عبارة عن حالة فكرية أو مجموعة من التصورات الذهنية، أما العبادات فهى مبادئ عملية تعبدية، وتشمل عملية للسلوك ينبغي أن يقوم بها الإنسان تجاه المقدس.

وما يميز هذا النظام المنسق سواء المعتقدات أو الممارسات أنها مقدسة ومنفصلة عن سائر الأمور الدينية، ويشمل المقدس مجموعة من النواهي والمحرمات، وأي أن دوركايم يقسم العالم إلى قسمين عالم مقدس وعالم دنيوي وأن هذه السمة مميزة للفكرة الديني. وما يميز تعريف دوركايم أيضًا الطابع المجتمعي للدين "في جماعة معنوية واحدة"، فالمعتقد الديني دائمًا معتقد جماعي خاص بجماعة معينة، والأفراد الذين يكونون هذه الجماعة يشعرون بالصلة بعضهم مع بعض، وبالترابط داخل واحدة إجتماعية هاصة إنطلاقًا من إمتلاكهم معتقد ديني خاص بهم.

إن أهم ماوجه من نقد لتعريف "دوركايم" استبعاد فكر الإلوهية بكل معانيها من هذا التعريف، كما أن هذا التعريف يشترك مع السحر في أن السحر يحتوي على عقائد وعبادات، كما أن ممارسة السحر تقوم أيضًا على تقسيم العالم إلى مقدس ودنيوي.

يتضح مما سبق صعوبة وضع تعريف جامع شامل للدين، فبعض التعريفات حددت مفهوم الدين في أديان الوحي، وبعض التعريفات وسع مفهوم الدين، وألغى فكرتي الإلوهية والروحية، وبين هذا التضييق والاتساع جملة تعريفات أخرى، ومن الصعب وضع مفهوم محدد للدين وذلك للأسباب التالية:

-اختلاف وجهات نظر الأديان في تعريف الدين.

-اختلاف مفهوم الدين في نظر الشعوب القديمة، والأمم المتقدمة.

-صعوبة تحديد المسائل التي تعد من صلب الدين في نظر المجتمع.

لذلك قام العلماء بتصنيف الأديان، هناك عدة تصنفيات ولكن أههم والأكثر أخذًا بهم، هو ماورد في المعجم الفلسفي باللغة الألمانية

Philosophische woerterbuch

الذي يقسم أديان العالم إلى ثلاثة أقسام، هى: أديان الطبيعة، أى تلك الأديان التي تشمل مجموعة من التشريعات تنظم علاقة أصحاب الدين بعضهم البعض، وأصحاب الدين مع غيرهم من البشر، وعلاقة أصحاب الدين بالمعبود، وأديان الخلاص أي الأديانالتي تلعب على فكرة الخلاص البشري.

واعتمد هذا التقسيم على الفكر الديني ذاته؛ حيث اخذ مفهومًا أو اعتقادًا دينيًا أساسًا لهذا التقسيم، ونلاحظ أن هذا التقسيم للأديان القائم على أساس من تشابه الأديان واختلافها، وجمع الأديان المتشابهة في مجموعة دينية واحدة قد اعتمد بالدرجة الأولى على تقسيم لغات العالم إلى مجموعات لغوية بناءً على العناصر المشتركة لكل مجموعة لغوية.

فنجد التقسيم الآتي

الديانات الهندية، الديانات الصينية، الديانات التوحيدية.

وسنعرف بالتفصيل في مجموعة مقالات أخرى عن كل ديانة منهن على حدى واستقلال تام.



وبهذا نكون وصلنا إلى نهاية رحلتنا اليوم، وسننتقل المقال القادم إلى "ما حاجة الإنسان للعبادة؟"، و"ما مفهوم الدين عن الشعوب المختلفة". أما الآن فارح عينيكَ عزيزي القارئ، على وعدًا مني بأن نُكمل معًا ما تبقى من الرحلة...


المصادر والمراجع: 

مدخل إلى تاريخ الأدايان، د. أحمد هويدي 
دين الإنسان، فراس السواح 


[1] ماكس موللر: (1822 – 1900)، من أوائل الباحثين في علم الدين ومن أصحاب الاتجاه الميثولوجي في دراسة الأديان، الذين اهتموا بمقارنة الميثولوجيا وأديان الشرق القديم.  

[2] إدوارد تايلور: (1832 – 1917)، مؤسس علم الأنثروبولوجيا في بريطانا، فقد استبدل مفهوم الآلهة بمفهوم الكائنات الروحية، ولذلك حاز شهرة كبيرة، واعتبر مؤسس النظرية الروحية (الأنيمية- animism).

[3] جميس فريزر: (1854 – 1941)، صاحب كتاب الغصن الذهبي، دراسة في السحر والدين.

[4] أديان مثل: البوذية، فبوذا ليس إله بل هو الرجل الأكثر حكمة، وأتباعه لا يبحثون عن النجاة عبر الصلاة، بل يعتمدون على تهذيب أخلاقهم وإتباع الفضائل في سلوكهم، والديانة الجينية: فتقوم على أساس التسليم بوجود مادتين مادة غير حية يتكون منها قسم الجسم غير الحي في العالم، ومادة حية تتكون منها الأرواح، وهى مادة خالدة، وكما أن الجينية تقوم على أساس قدم العالم أى أن العالم لم يُخلق، وهى بذلك تتعارض مع أديان الوحي من جانب، وأديان الشرق الأدنى القديم من جانب آخر.

[5] كانت: 1724 – 1804

[6] 1858 – 1917

تعليقات

المشاركات الشائعة