شيطان الغنوصية

 كتب: منة الله عامر

              في الوقت الذي تفشت فيه الحروب والأمراض والآوبئة أرجاء كوكب الأرض، هناك في مكانٍ ما في هذا الكون الغامض الذي مع كل محاولة منا لفهمه، نتيقن إننا لن نفهمه مُطلقًا، هناك جماعة من البشر تؤمن بذلك التيار الروحي الذي يدعو إلى الوصول للمعرفة الكاملة والشفاء دون الحاجة للتدخل الدين أو الإيمان بأنبياء وحتى الطب، عرفنا معًا أمر القلادة الشفائية التي تعالج الهالة التي تحيط بالإنسان، ولكن من أين جاءت الفكرة من الأصل حتى خرجت لنا على صورة ملموسة كتلك القلادة الاستشفائية.



          لابد لنا أن نَركب آلة الزمن الخاصة بنا، لنعود إلى الماضي خلال القرون الأولى لميلاد سيدنا عيسى -عليه السلام-؛ في ذاك الوقت كان مؤلفو الأسفار التوراتية المنحولة يعملون على إحداث تغييرات الإيديولوجيا التوراتية، مع الحفاظ على جوهرها إلى حدًا ما، في ذاك الوقت كان الغنوصييون يؤسسون تيار روحي جديد يقوم على نقد جذري لليهودية وللمسيحية اليهودية على حد سواء.

        نشأ هذا التيار في الإسكندرية ثم امتد إلى سوريا وبلاد الرافدين (العراق القديم)، وساهم في إغنائه عدد من المعلمين الكبار من أمثال: فالنتينوس، باسيليديس، بتولمايوس، ونافست الغنوصية في كل مكان المسيحية في القرون الأولى للميلاد، وشكلت تهديدًا حقيقيًا لها قبل أن تتلاشى إصر حملة قمع قادتها الكنيسة في القرن السادس الميلادي؛ حيث تلفت في تلك الفترة كل المخطوطات الخاصة بالغنوصية، ولكن الاكتشاف الذي أعاد الضوء إلى ذلك التيار، وهو اكتشاف أثري لمخطوطات بموقع نجع حمادي بمصر[1]، احتوت على اثنين وخمسين مخطوطة مخبأة في جرارة فخارية، أمكن إرجاع تاريخها إلى حوالي 400 م، وهى عبارة عن ترجمة قبطية لأصول يونانية، ومنذ عام 1964 عكف الباحثون على ترجمة هذه الثروة الفكرية الهامة، وصارت متاحة للقراء في مجلد واحد ضخم صدر بالإنجليزية بإشراف وتحرير

J. M. Robinson[2]

ما الغنوصية؟

الغنوصية هي كلمة من أصل يوناني تدل على المعرفة بشكل عام،   

Γνωστικισμός Gnosticism – Gmosis

ولها أشباه في بقية اللغات الهندو أوروبية، مثل قولنا بالإنجليزية

Know

أي يعرف وكلمة

Knowledge 

      أي معرفة، على أن المعرفة التي تشير إليها المفاهيم الغنوصية هي أقرب إلى مفهوم "العرفان" أي إنها فعالية روحانية تقود إلى معرفة الأسرار الإلهية من خلال تجربة باطنية تقود إلى الكشف والاستنارة، ففي مقابل التزام اليهودي بالشرعية وأدائه للطقوس، وفي مقابل إيمان المسيحي بيسوع المخلص، فإن الغنوصي ينكفئ على ذاته في خبرة عرفانية تقوده إلى معرفة الله الحي ذوقًا وكشفًا وإلهامًا، هذه المعرفة هي وحدها الكفيلة بتحرير الروح الحبيسة في إطار الجسد المادي والعالم المادي الأوسع، لتعود إلى العالم النوراني الذي صدرت عنه.

أي إله يبحث عنه الغنوصي؟

         الإله الحي الذي يبحث عنه الغنوصي في داخله، ليس "يهوه" إله العهد القديم، بل إله أعلى يتجاوز ثنائيات الخلق ويسمو فوقها، فهم يعتقدون أن هذا العالم الناقص والمليء بالشرور ليس من صنع الله الخالق، بل من صنع إله أدنى هو إله العهد القديم "يهوه"، الذي يطابقون بينه وبين "أنجرا ماينو" شيطان الزرادشتية، ويدعونه بأمير الظلام وحاكم العالم المادي، ويصورنه على هيئة ملك متربع على عرش العالم يحيط به مساعدو من قوى الظلام المدعوون بالأراكنة (مُفردها راكون أي الحاكم)، هذا الإله الخالق هو نقيض إله الأنوار الأعلى الذي لا يحده وصف ولا يحيط به اسم، وهو يعمل دومًا على حبس النور في طبقات المادة الكثيفة التي خلق منها العالم، وعندما جاء إلى خلق الإنسان في نهاية عمل التكوين، صنع جسمه من مادة الأرض الظلامية، ثم حبس روحه التي أخذها من نور الأعالي المسروق في ذلك الجسد، ولكي يبقيه في حجب الجهل فقد فرض عليه الشريعة، التي تشغله عن العرفان واكتشاف الجوهر الحقيقي للروح.

        أتت بدايات الفكر الغنوصي من الحكمة الهرمزية، وهى مزيج من أفكار أفلاطونية وميثولوجيا مصرية قديمة، وبعض الباحثين يرى أن الفكر الغنوصي بدايته كانت في الحضارة المصرية وصولا إلى التصوف الإسلامي، ومن الواضح أن الفكر الغنوصي هو مزيج بين أكثر من معتقد وميثولوجيا، فسنرى الفكر الأسطوري والآلهة الكونية، والفكر المصري القديم، ونلاحظ أيضًا ثنائية الإله والفكر الزرادشتي، ثم تطور إلى المعتقد المانوي، ثم بعد ذلك سنلاحظ أن بعض الفرق اليهودية القديمة التي اندثرت الآن مثل الفرقة الإسينية، تحمل بعض المعتقدات التي تجلت في الغنوصية، ولو قرأنا عن فرقة الصائبة سنجد أيضًا منها بعض الأفكار التي تتشابه مع الغنوصية، وبذلك يُمكننا أن نقول إن الفكر الغنوصي هو معتقد توفيقي بين الديانات جميعًا السماوية منها والوضعية، وتحدث عنهم "ابن النديم" في كتابه الشهير "الفهرست"؛ حيث سماهم "المغتسلة"، وذكرهم الشهرستاني في كتابه الملل والنحل باسم "المانوية".

مؤسسو المعتقد الغنوصي

        اتخذت الغنوصية شكلها الناضج على يد معلمها الكبير "فالينتينوس" الذي ولد عام 10 م بمنطقة الدلتا بمصر من أسرة ذات أصول يونانية، وتلقى علومه بالإسكندرية مدينة العلم والثقافة لذلك العصر، وبؤرة إشعاع الفكر الإفلاطوني المحدث والفكر الهرمسي، اتصل بالمسيحين واعتبر نفسه مسيحيًا وأسس أكاديمية للبحث الحر، اعتبر "فالينتينوس" نفسه المفسر الحقيقي لتعاليم المسيح، وبلغ من ثقته بنفسه أنه قد دعا لنفسه كمرشح لكرسي الباباوية في أواسط القرن الثاني الميلادي، رغم أن تعاليمه تشكل انشقاقًا كاملًا عن لاهوت العهد القديم، وتفسيرًا مُغرقًا في التطرف لحياة يسوع ورسائل بولس الرسول.

       يظن فالينتينوس أن بؤس الإنسان ناجم عن سجن روحه في المادة المظلمة من قبل "يهوه" (إله العهد القديم وخالق العالم المادي)، ولكن الخلاص متاح أمام كل فرد من خلال الغنوص أو العرفان الداخلي، ورغم أن العرفان ذو طابع فردي في أساسه ويؤدي إلى خلاص فردي في النهاية، إلا أن كل فعالية عرفانية فردية تؤثر في صيرورة الكون بكامله، وتساعد على تخليص العالم، كما تساعد على إصلاح الإله الخالق نفسه؛ لأنه إله جاهل ومحروم من العرفان اللازم لخلاصه، ولكن الإنسان قادر على معونته وعلى شفائه وتحريره من خلال تلمسه للتور الروحاني في داخله.

       يعتبر باسيليدس المعلم الثاني للغنوصية، بعد معاصره "فالينتينوس"، واعتبر نفسه مسيحيًا أيضًا وبقى عضوًا في كنيسة الإسكندرية حتى آخر أيامه، رغم أن أتباعه كانوا يقولون بإنهم ليسوا يهودًا ولم يصبحوا بعد مسيحين، أسس "باسيليدس" مدرسة غنوصية اجتذبت الكثير من الأتباع خلال النصف الأول من القرن الثاني الميلادي، وكان يبشر بإله أعلى يسمو على إله يهوه إله العهد القديم، أنتج باسيليدس ميثولوجيا على غاية من التعقيد والغموض في موضوعات النشأة الأولى والتكوين، ففي بداية لم يكن شيء سوى العدم والإله الخفي المتلفع بالعدم،   ثم أنتج الإله الخفي بشكل تلقائي بذرة الكون التي تنطوي على كل الممكنات التي تحققت فيما بعد.... من هذه البذرة خرج الأركون الكبر المدعو "يهوه" وباشر بخلق العالم المادي دون أن يعلم بوجود الإله الخفي الأسمى منه.

          أما الشخصية الثالثة في الفكر الغنوصي فكانت مرقيون، أسس مرقيون خلال أواسط القرن الثاني الميلادي لكنيسة بديلة، شكلت أكبر تهديد للكنيسة الرسمية، واستمرت قوية لفترة طويلة بعد وفاة مؤسسها، خصوصًا في الأطراف الشرقية لمناطق انتشار المسيحية مثل: أرمينيا، وكانت وراء تعجيل الكنيسة في إقرار الأناجيل الأربعة وتثبيت المعتقد الرسمي في صيغته النهائية، يعتبر مرقيون أكثر الغنوصين مسيحية، فرغم اتفاقه مع الغنوصية في كل طروحاتها الرئيسية إلا إنه يؤكد في النهاية على عنصر الإيمان المسيحي، ويعليه فوق العرفان الغنوصي، فالخلاص عنده يأتي بالإيمان وعن طريق يسوع المسيح ابن الله العلي[3] وليس ابن "يهوه"، فيرى "مرقيون" أن هذا العالم المادي الناقص والمليء بالشرور هو من صنع الإله يهوه، وإن إله العهد القديم هذا هو الذي خلق الإنسان وفرض عليه الشريعة التي كانت بمثابة لعنة، على حد تعبير بولس؛ حيث فصل مرقيون بين العهد القديم والعهد الجديد بل واعتمد على إنجيل لوقا وعلى رسائل بولس الرسول، ويكمل فكرته؛ بإن الإله الأعلى اشفق على الانسان فأرسل له ابنه المسيح في هيئة يسوع لُيخلص البشرية ورآه الناس بينهم فجأة وهو يُعلم ويُبشر بملكوت الروح، فظنه اليهود المسيح القومي المنتظر، كما أن الحواريين أنفسهم لم يفهموا المغزى الحقيقي لرسالته ونظرًا للجهل بقيمة المخلص فقد دفع به إلى الصلب، وهو لا يدري أن عمله هذا سوف يجلب عليه سوء المصير، لأن ابن الله قد حرر بموته الناس من سلطة يهوه ومن لعنه الناموس، ويُمكننا الآن أن نُدرك من أين أتت فكرة التثليث وكيف دخلت إلى المسيحية.

كيف حلت الغنصوية معضلة الشر في العالم؟

             حلت الغنوصية معضلة الشر في العالم بطريقة مختلفة ومغايرة على الفكر الديني، وبذلك ابتكرت فكرة الآب الأعلى مصدر العالم الروحاني "عالم النور" والإله الأدنى خالق العالم المادي "عالم الجهل والظلمة"، فالكون المادي لم يُخلق كاملًا من قبل الإله ثم داخله الشر من خارجه، بل إن المادة هي الشر بعينه، ومصدر هذا الشر هو إله التوراة الذي وُلد صدفة من الأم صوفيا[4]، ثم أخذ يخلق المادة ليقتنص فيها نور الأعالي ويحبس فيها أرواح الناس، ولكن هذا الإله وعالمه سيؤولان إلى الدمار عندما يتعرف الإنسان على النور الأسمى في داخله، وهى المعرفة التي تعتقه من دورة الميلاد والموت والتناسخ في الأجساد، فالإنسان ليس خاطئًا منذ البداية ولكنه مأسور في حجاب الجهل، ولا فكاك له إلا بالعرفان، وهو النشاط الأسمى للنفس الإنسانية الراغبة في الانعتاق، إن العرفان الداخلي الذي ينير جنبات النفس هو الذي يجعل من صاحبه إنسانًا طيبًا وأخلاقيًا، ودونما حاجة إلى لوائح أخلاقية مفروضة من الخارج، لأن الشر هو الجهل والمعرفة هي الخير، أما الطقوس والعبادات الشكلية فليست في حقيقتها إلا خضوعًا لإله العالم المادي وتطبيقًا أعمى لشرائعه، بينما لا يتطلب الأب الأعلى من الإنسان سوى أن يعرفه ويتلمس منابع الخير في داخله، وهو ملتزم بتخليصه واستعادة روحه إلى بيتها الذي ضاعت عنه، إذا استجاب لنداء رحمته.

ولكن ما علاقة كل هذا بالقلادة هذا ما نحاول الوصول إليه.... لنكمل الرحلة في المقال التالي.





[1] للمزيد، كتاب اكتشافات بالصدفة، أحمد أبو العلا

[2] J. M. Robinson, The nag Hammadi Library, Harper, New York, 1972.

[3] والجدير بالإشارة أن الالهة في المعتقد الغنوصي هم شياطين بالنسبة لنا، والآلهة اسمهم "أراكنة" ومفردها "أركون بمعنى حاكم".

[4] صوفيا: هي أهم التصورات الميثولوجيية في الفكر الغنوصي، وصوفيا هي إله الحكمة، وأخر أفلاك القوي الروحانية في ترتيب الصدور عن مركز النور الأسمى، وهي حلقة وصل بين الأفلاك الروحانية وعالم الجهل العالم المادي، وهى التي أنجبت الأركون الأعظم كبير الآلهة "يهوه". 


للمراجع: 

الرحمن والشيطان، فراس السواح 

تعليقات

المشاركات الشائعة