دعوات النفخ في البوق داخل المسجد الأقصى
كتب: منة الله عامر
منذ أيام تزايدت الدعوات من قبل الجماعات اليهودية المتطرفة بداخل الكيان الصهيوني في القدس، باقتحام المسجد الأقصى والنفخ بالبوق، وممارسة بعض الطقوس الدينية الغير معتادة، خاصة في الأيام المقبلة المتزامنة مع موسم الأعياد اليهودية، والتي تبدأ بعيد "رأس السنة العبرية" أو "عيد النفخ في البوق"، فما قصة البوق وتلك الطقوس وأهميتها بالنسبة لليهود اليوم وعلاقتها بالمسجد الأقصى.
رمزية النفخ
في البوق عند اليهود
البوق أو"שופר" الشوفار بالعبرية، هو أداة نفخ تصنع من قرن
الكبش الذي يقدم كأضحية أو تقدمة في المعبد، ويذكر لنا دكتور رشاد الشامي رحمه الله، في كتابه الرموز الدينية في
اليهودية، أن أول بوق تم صنعه من الكبش كان الذي ضحى به سيدنا إبراهيم افتداء لابنه.
استخدم البوق قديمًا
أثناء الحرب لدعوة الشعب للخروج والمشاركة في المعركة ولإعلان الجهاد المقدس ضد
الأعداء ولإثارة الرعب في نفوسهم، مثلما حدث مع "يشوع بن نون" عند
احتلاله لأريحا؛ فنقرأ في سفر يشوع الإصحاح 6:"وَالْكَهَنَةُ يَضْرِبُونَ بِالأَبْوَاقِ، وَيَكُونُ
عِنْدَ امْتِدَادِ صَوْتِ قَرْنِ الْهُتَافِ، عِنْدَ اسْتِمَاعِكُمْ صَوْتَ
الْبُوقِ، أَنَّ جَمِيعَ الشَّعْبِ يَهْتِفُ هُتَافًا عَظِيمًا، فَيَسْقُطُ سُورُ
الْمَدِينَةِ فِي مَكَانِهِ، وَيَصْعَدُ الشَّعْبُ كُلُّ رَجُل مَعَ وَجْهِهِ..".
واستخدم أيضًا من أجل التحذير من الخطر المتوقع من قبل
الكشافين أو طلائع الجيش، وعند مسح ملوك إسرائيل قديمًا كان يتم النفخ في البوق،
وقد أعيد بعث هذا التقليد الديني في دولة إسرائيل في فلسطين المحتلة، عند أداء
رئيس الدولة لليمين.
وفي بعض الأحياء
اليهودية الأرثوذكسية في القدس يستخدم اليهود "البوق" للإعلان عن مقدم
يوم السبت، وحينما احتلت القوات الصهيونية القدس في يونيو 1948م ذهب الحاخام
العسكري الجنرال "جورين" ونفخ في البوق أمام حائط المبكى، وهو نفس البوق
الذي نفخ فيه فوق جبل سيناء، حينما احتلت قوات الاحتلال شبة جزيرة سيناء في عام
1956م.
وينفخ في البوق بترتيب معين،
فقبل بدء النفخ في البوق يتلو الحاضرون -في المعبد- المزمور 47 ويكررونه سبع مرات، وقبل أن تبدأ عملية
النفخ يتلو النافخ صلاة قصيرة ثم يبدأ النافخ والحاضرون قراءة فقرات تعبر عن
الرحمات، "مِنَ الضِّيقِ دَعَوْتُ الرَّبَّ
فَأَجَابَنِي مِنَ الرُّحْبِ" المزامير (118: 5)، يكون النفخ على ثلاث
مجموعات كل مجموعة من ثلاث مرات، وفي الصلاة الإضافية ينفخون ثلاث مرات بعد صلاة
"ملكويوت، زخرونوت، شوفرونوت"، ويختلف العدد من طائفة إلى أخرى وتتكرر
العملية في يوم رأس السنة، ومن لم يستطع الذهاب إلى المعبد لسماع عملية النفخ فإنه
ينفخ البوق في منزله.
وعندما كان هيكل سليمان مُشيدًا كان يتم نفخ البوق في
داخله فقط، وكان هذا البوق مغطى بالذهب، وكان وقت النفخ به متزامن مع الفجر حتى
شروق الشمس، ولكنهم بعد ذلك غيره فأصبح يُنفخ في البوق في صلاة المساء.
عيد رأس
السنة العبرية ראש השנה
يُطلق على عيد رأس السنة
العبرية في العهد القديم "روش هاشاناه" أو "يوم النفخ في
البوق" أو "יום תרועה"
وهو يحتوي على مضمونين
رئيسين، الأول: كونه عيدًا لبداية العام الجديد والثاني فهو يوم حساب النفس
والتوبة؛ فمن الطبيعي أن يحاسب الإنسان نفسه على أفعاله في العام المنصرم وليستعد
للعام الجديد.
ويستمر عيد رأس السنة العبرية حسب التقاليد
اليهودية لمدة يومين، ويعتبر حاخامات اليهود اليومين هو يوم واحد طويل يُطلقه عليه
اسم "יום ארוך" –
"يوم
أروخ"، حسب ما جاء في كتاب الأعياد اليهودية للباحث والمترجم عمرو زكريا.
قديمًا كانت السنة
العبرية الجديدة تبدأ من شهر نيسان أي في الربيع، فيُعتقد أن في هذا الوقت خرج بنو
إسرائيل من مصر وأصبحوا أحرارًا وبدئوا تقويمًا خاصًا بهم، ولكن بمرور الوقت وبعد
استقراراهم في أرض كنعان "فلسطين" حدد الحاخامات رأس السنة بالأول من
شهر تشريه الأول، والذي يعتبر موسم الحصاد لديهم.
طبقاً للتقويم العبري يعتبر بداية يوم 26 سبتمبر 2022
الذي يوافق 1 تشريه 5783 عبري (اليوم يبدأ من غروب الشمس). والتقويم العبري هو تقويم شمسي/ قمري - تكون الشهور قمرية 29/ 30 يومًا،
ويتم معادلتها لتتوافق مع تغير الفصول وذلك بإضافة شهر كل ثلاث سنوات أو سنتين -
طبقاً لدورة ميتون التي تتكرر كل 19 عاماً - وبالتالي تكون رأس السنة العبرية
متنقلة خلال شهري سبتمبر وأكتوبر فقط من كل عام.
مصادر العيد
أوصت التوراة بالنفخ في
الأبواق في بداية السنة الجديدة؛ فورد في سفر اللاويين (23: 23 – 25) "وَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى قَائِلًا: كَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَائِلًا: فِي الشَّهْرِ السَّابعِ، فِي
أَوَّلِ الشَّهْرِ يَكُونُ لَكُمْ عُطْلَةٌ، تَذْكَارُ هُتَافِ الْبُوقِ، مَحْفَلٌ
مُقَدَّسٌ، عَمَلًا مَا مِنَ الشُّغْلِ لاَ تَعْمَلُوا، لكِنْ تُقَرِّبُونَ وَقُودًا
لِلرَّبِّ"، والمضمون ذاته في سفر العدد "وَفِي الشَّهْرِ السَّابعِ،
فِي الأَوَّلِ مِنَ الشَّهْرِ، يَكُونُ لَكُمْ مَحْفَلٌ مُقَدَّسٌ. عَمَلًا مَا
مِنَ الشُّغْلِ لاَ تَعْمَلُوا. يَوْمَ هُتَافِ بُوق يَكُونُ لَكُمْ" (29:
1)، والشهر السابع هو شهر أيلول أو شهر سبتمبر.
وما يميز هذا العيد عن غيره، كما ذكرها دكتور سامي
الإمام أستاذ الدارسات اليهودية بجامعة الأزهر، كلية اللغات والترجمة رحمه الله في
كتابه الموسوعي "الفكر العقدي اليهودي موسوعة جيب"، هو أن الخلقُ يتوجوه الرب ويملكونه عليهم، ولذلك يُنفخ في البوق، فيعتبر
النفخ به سبب من أسباب السعادة، وفي هذا اليوم تُرتدى الملابس الجديدة الملونة
ويذكر لنا التلمود البابلي أن هذا اليوم هو ذكرى
خلق العالم، ولذلك تتضمن صلوات هذا اليوم فقرات توراتية وتراثية تمجد الرب وتذكر
علو شأنه وسيطرته على العالم، كما يتضرع إليه بصفته إله إسرائيل، ويذكر التلمود أن
هذا اليوم يفتح فيه ثلاث سجلات:
الأول: سجل الأبرار، الثاني: سجل الأشرار، وهذا السجلان
يفتحان ويغلقان على الفور، وتكتب لأصحاب السجل الأول الحياة، بينما يكتب لأصحاب
السجل الثاني الموت، أما السجل الثالث: فسجل المتوسطين بين أصحاب السجلين الأول
والثاني، وهؤلاء معلقون ومصيرهم رهن أفعالهم في أيام التوبة العشرة التي تمتد حتى
يحل يوم "الغفران"، فإن تابوا يكفر عن أفعالهم السيئة، وإن لم يتوبوا
يُكتب عليهم الموت، لذلك يهنئ اليهود بعضهم البعض في تلك الفترة الواقعة بين رأس
السنة وعيد الغفران، بعبارة "أتمنى لك الخير".
ويؤكد لنا كاتب سفر المزامير أهمية البوق؛ "بِالأَبْوَاقِ وَصَوْتِ
الصُّورِ اهْتِفُوا قُدَّامَ الْمَلِكِ الرَّبِّ" (98: 6)، فورد في الموسوعة اليهودية أن حاخامات اليهود
فسروا هذه التوصية، بأن رأس السنة هو يوم بدء خلق العالم فهو اليوم الذي خلق الله
فيه العالم وملك عليه، ويضاف لأسباب هذا العيد أيضًا سبب أكثر أهمية، وهو تقريب
إسحاق (الذبيح حسب العقيدة اليهودية) في مثل هذا التاريخ، ويعتبر هذا العيد هو
بداية أيام التوبة.
ومن شعائر العيد كما ذكرها البروفسور "Ophir
yarden" أستاذ الدراسات اليهودية
والإسرائيلية في جامعة "براجم يونج" في بحثه "الأعياد والاحتفالات في الكتاب المقدس"، أن تُقرأ أجزاء من التوراة؛ ففي اليوم الأول تقرأ قصة هاجر
وإسماعيل، وملاك الرب الذي أنقذهما من الموت عطشًا، وفي اليوم الثاني تقرأ الفقرات
التي تتحدث عن تقديم إسحاق كقربان للرب، وينفخ في البوق بنظام معين، ولكن إذا صادف
العيد "يوم السبت" فلا يجوز النفخ في البوق حتى لا يدنسوا يوم السبت
-يوم الراحة-.
ومن المعتقدات السائدة أن النفخ في البوق يهيئ النفس
اليهودية للتوبة، ويبلبل أفكار الشيطان، ومن العادات الشائعة أن يتوجه اليهودي بعد
الظهر إلى شاطئ نهر أو بحر، ويقرأ هناك صلاة معينة وتسمى "תשליך" بمعنى
الخلع، لكي يتطهر تمامًا من ذنوبه ويأخذها البحر.
ويذكر كتاب "שולחן ערוך" للربي يوسف كارو، أن هناك أطعمة معينة لهذا
العيد، فيوصي في اليوم الأول من العيد بتناول التفاح بالعسل لإشعار النفس بالتفاؤل
والخير بالعام المرتقب، كما يوصي بتناول رأس كبش أو رأس سمكة تيمنًا بأن يكون
الإنسان، "رأسًا بلا ذنبًا" والسبانخ تفاؤلًا "بانصراف
الأعداء" والكراث أملا في "هلاك الأعداء"، ودرج بعض اليهود الذين
كانوا يقيمون في دول شمال أفريقيا على عدم شرب القهوة في "رأس السنة"
نظرًا للونها الأسود الذي يعد في نظر كثيرين نذير سوء.
المسجد الأقصى
ودعوات التطهر
على مدار سنوات الاحتلال
وقبلها، روج اليهود المتطرفون والصهاينة أن مكان الهيكل هو المسجد الأقصى، ورغم
العديد من الأبحاث التي نفت ذلك الادعاء إلا إنهم مازالوا يرددونه من أوانه لأخرى،
ومنذ أثنى عشر عامًا صور مجموعة من المتطرفين اليهود فيديو للحظات
تفجير المسجد وبناء الهيكل بدلًا منه، وعلى حسب المعتقد اليهودي فلن يأتي المسيح
المخلص ولن تتحقق النبوءات بسيطرة اليهود على العالم وإخضاعه، إلا عند هدم المسجد
وإعادة بناء هيكل سليمان مرة أخرى، وذلك لن يحدث إلا إذا تابوا ونفذوا وصايا الرب.
لذلك يعتبر عيد رأس السنة
العبرية رقم 5783 القادم خلال أيام قليلة، هو فرصة
مناسبة؛ لكي يتمكنوا من تحقيق تلك النبوءة، وذلك وبما أن التطهر
والتوبة شرط أول لإعادة الهيكل، فيجب أن يتطهروا بما نصت عليه التوراة، وهي شريعة
البقرة الحمراء.
يذكر لنا سفر العدد شريعة البقرة الحمراء كاملة؛ " وَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى وَهَارُونَ قَائِلًا، هذِهِ
فَرِيضَةُ الشَّرِيعَةِ الَّتِي أَمَرَ بِهَا الرَّبُّ قَائِلًا: كَلِّمْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ أَنْ يَأْخُذُوا إِلَيْكَ بَقَرَةً حَمْرَاءَ صَحِيحَةً لاَ عَيْبَ
فِيهَا، وَلَمْ يَعْلُ عَلَيْهَا نِيرٌ، فَتُعْطُونَهَا
لأَلِعَازَارَ الْكَاهِنِ، فَتُخْرَجُ إِلَى خَارِجِ الْمَحَلَّةِ وَتُذْبَحُ
قُدَّامَهُ...." (19: 1 – 10).
ولكن كيف يستخدم هذا الرماد الذي يحتفظ به خصيصًا لأغراض
التطهُّر؛ في عمل ما يسمّى "ماء التطهّر من النجاسة"، نقرأ نص التوراة
في ذلك:
"فيأخذون للنجِس من غبار حريق (البقرة الحمراء)، ويصب عليه من ماء نبع جار
في إناء. ويأخذ رجل طاهر أغصان الزوفا (اسم نبات عطري) ويغمسها في الماء، ويرشه
على الخيمة وعلى جميع الأمتعة، وعلى كل من كان حاضراً هناك، وعلى الذي لمس العظم
أو القتيل أو الميت أو القبر. ثم يرشّ الطاهر ماء التطهِير على النجس في اليوم
الثالث، واليوم السابع، ويطهره في اليوم السابع، وعلى المتطهّر أن يغسل ثيابه
ويستحمّ بماء فيصبِح طاهرًاً في المساء أما الذي يتنجّس ولا يتطهّر فيستأصل من بين
الجماع".
هذه هي طريقة التطهُّر، ويجب أن يكون هذا الكاهن طاهرًا
تمامًا، فأي كاهن يلامس جثة يهودي أو يتصل بها، حتى ولو بطريق غير مباشر يكون
نجسًا، أما لو لامس جثة غيري (غير يهودي) فلا يتنجس؛ لأن جثث الأغيار لا تسبب
النجاسة فهي لا قداسة لها.
فإن تنجس كاهن أو أي يهودي وجب أن يتطهر من نجاسته
بالطريقة التي وردت بالنصوص التوراتية، المشكلة الآن أن مع تدمير
هيكل أورشليم على يد نبوخذ نصر البابلي سنة 586 ق.م، ومنذ ذلك
الحين واليهود جميعهم غير طاهرين، ولا يقوم بعملية إحراق البقرة إلا كاهن طاهر،
إذن المشكلة يستحيل حلها؛ فلا توجد بقرة طاهرة تحمل شروط القداسة التي جاءت بالتوراة،
ولا يوجد كاهن طاهر يقوم بالتطهير إن وجدت بقرة طاهرة.
فكان الحلّ بالنسبة لهم أن، نادى بعض الحاخامات منذ بضع سنين بأن حلّ
معضلة الكاهن الطاهر المقدس يمكن التغلب عليها بأن تعزل امرأة يهودية حامل من إحدى
الأسر الكهنوتية داخل منزل يبنى على أعمدة مرتفعة حتى يعزل المنزل نفسه عن أية جثث
يهودية قد تكون موجودة تحته، ويقوم رجال آليون بتوليدها! ثم يقومون بعد ذلك على
تنشئة الطفل الوليد بعيدًا عن كل البشر، حتى يصل سنّ الثالثة عشرة ساعتها يمكن أن
يصبح كاهنًا طاهرًا فيقوم بإتمام طقوس البقرة الحمراء، وتحل المشكلة.
لكن العقبة الكبرى هي العثور على بقرة حمراء بالمواصفات
التوراتية تكون طاهرة وهو ما يبدو مستحيلًا، ولذلك ادعت جماعات الهيكل في أوائل الشهر
الحالي باستيراد بقرات حمراء من الولايات المتحدة؛ لكي يتحقق شرط الطهارة لهم ويمكنهم
دخول المسجد الأقصى والنفخ في البوق، في محاولة منهم لتحقيق النبوءات المنتظرة وإعادة
بناء الهيكل من جديد.
وفيما يبدو وحسب رأي الباحث في الشأن الإسرائيلي
والمترجم الأستاذ عمرو زكريا، أن الجماعات اليهودية المتطرفة نظرًا للأوضاع
السياسية في -إسرائيل- والأجواء الانتخابية وما قبلها من حكومة "بينيت ولابيد"
الهشة؛ فإنه يتم السماح للمتطرفين بممارسات ومخالفات واقتحامات في الأقصى تثير
مشاعر المسلمين، ومن المرجح أن بعد انتخاب حكومة قوية مستقرة سياسيًا يمكن الضغط
عليها خارجيًا سواء من الدول العربية أو الولايات المتحدة؛ لوقف هذه الممارسات
لاستمالة الأحزاب الدينية المتشددة والمتطرفة من أجل تحقيق مصالح سياسية.
تعليقات
إرسال تعليق